في يوميات الحصار ... الانتظار يستهلك المُقاومة
الغوطة، ريف دمشق - قُدِّر لي أن أعيش تجربة الحصار مع صديقة قضَت سنوات عدّة من حياتها في المعتقل. يندر أن يمر موقف من غير أن تقارن الحصار بالسجن، تقول إن التجربتين متشابهتان إلى حدّ بعيد في أوجه كثيرة
المكان بقعة جغرافية محدّدة لا يمكن تجاوزها. الوجوه نفسها تتكرر، والحكايات. الرغبات يجب التعلّم على كبحها حتى أبسطها وأكثرها بديهية. وكما حياة السجين بيد الجلاد، فإن حياة المحاصر بيد قاذف الهاون وكابتن الميغ وشبح الجوع والمرض
في بعض وجوهه، السجن أكثر قسوة بكثير. التعذيب الجسدي مثلاً، فراق العائلة.. في وجوه أخرى الحصار أكثر قسوة. فهو يشمل العائلة والأحبة والأطفال، غذاءهم، تعليمهم ومستقبلهم
كلّما طال الحصار واشتدّ، انخفضت قدرة الناس على المقاومة، نال منهم التعب وحوصروا في أحزانهم ويأسهم
كتب ياسين الحاج صالح منذ سنوات "ترويض الوحش" في وصف معالم السجن السياسي المديد في سوريا الأسد، زمنه وأشباحه وأدوات ترويضه. أن تقوم الضحية بترويض الوحش وهي لا تزال بين أنيابه
وبمخيلة مستمدّة من حكايا الجدّات للأطفال، يعني أن ذلك الانسان الضعيف النحيل الذي كسرت عظامه وقلعت أظافره وتعرّض للتجويع والمذلّة ولتحطيم أناه بمنهجية، يعتلي بابتسامة هادئة الوحش الضخم الذي يتناثر الزبَد من فمه البشع، وأذرعه الطويلة تخبط يمنة ويسارا
الحصار نمط حياة إجباري وخبرة مشتركة لعشرات الالوف من السوريين. إن امتداده الزمني الطويل و"قاعدته الاجتماعية" العريضة يجعلان منه تجربة وطنية بالفعل
لكنّ كثراً من السوريين في الثورة بشكل عام، وفي الحصار بشكل خاص، لا يزالون يعيشون اللحظة على أنها مؤقتة وبانتظار أن تنتهي، مع أنها أصبحت منذ زمن نمط حياة لا فكاك منه
اليوم يغلب التعب على الجميع. خاصة مع خسارة العديد من المناطق المحررة لصالح الوحش. حين هتف بعض سكان تلك المناطق لجيش النظام مؤخرا، فكرت أنهم لا يعرفون حكاية "ترويض الوحش"، وأن الثورة اختزلت لديهم بانتصار عسكري هنا أو هناك، أو أن ضراوة الموت والجوع تمكنت منهم رغم كل شيء
الجميع بانتظار "الإفراج" الذي لا يعلم أحد موعده. الانتظار وحده يستهلك ما تبقى من قدرة على المقاومة. لعينٌ وقابل للإدمان ويُنهك العقل والروح
"ينقسم المحاصرون صنفين من حيث تعاملهم مع الحصار. يلجأ الصنف الأول إلى "قتل الوقت" ... الحصار هنا زمنٌ ضائع، مهدور، يتحمّله المحاصر تحمّلاً سلبياً ويتحيّن لحظة الخلاص. يعمد الصنف الآخر في المقابل إلى ترويض الوقت، يحاولون تدشين بداية جديدة وفتح سجل اكتساب جديد في الحصار. فبذلك يدمج المحاصر تجربة الحصار في مخطط حياته ويمنحها معنى كان يمكن أن تفتقر إليه، وبذلك أيضا يوسع من فسحة حريته، حتى وهو ضمن الحصار. وأهم طرق ترويض الوقت" عدم إهداره في الانتظار. العمل مع أجل خلق ثقوب للتنفس والضوء في جدار الحصار السميك
لا فائدة من محاولة استنساخ أي من عناصر الحياة "السابقة" في الحصار. بعض ما كان من أساسياتها لم يعد موجودا. مؤخرا خرج شبان في مظاهرة للمطالبة بالإفراج عن صديق لهم مختطف من قبل "داعش".. كانت ردّة فعل العديد من السكان في الشارع، من هي داعش؟
الحياة بدون كهرباء تعني الحياة بدون تلفزيون وانترنت وعالم خارجي ... وانحسار ما يتم تداوله بين الناس في المحيط الجغرافي للمنطقة المحاصرة. حتى المفردات المتداولة تصبح أكثر تحديدا وتكرارا، ومع الوقت تبحث عن مفردة ما كانت بديهية الحضور إلى ذهنك لتعجز عن استحضارها. أما الصور البصرية فتصبح أقل تدرجاً بالألوان، حسب قدرة المرء على التخيل
علاقة المحاصر بالزمن مركبة ومتناقضة. ففي حين قد يكون القراء منا معاصرين ثقافيا للزمن الخارج ... فإنّ أبعاداً أخرى من شخصياتنا تكف عن النمو وتتقزم". إلى حدٍ ما على أية حال
فالحصار هنا يختلف عن السجن بأنّه "شبه حرية" تُعطي وهمًا بأنّ الحياة تعاش ويكتفى بعيشها ضمن عناصرها المحلية التي تضغطك باستمرار، تُضمِر لدى المحاصر القدرة على "معاصرة" ما يحصل خارج حصاره، أو حتى الإحساس به
"الحصار وحش، ولا يمكن للمرء أن يعايشه إلا إذا روضه وسيطر عليه"
الرتابة، معاناة الحياة اليومية في أبسط شؤونها، كالحصول على الطعام والماء وعلبة السجائر، عدم معرفة إلى متى ولأي مدى قد يمتد هذا الحصار. ذلك كله يراكم تعباً يذهب شيئاً فشيئاً بما كان قد تراكم من إحساس مؤقت بالانتصار على الوحش
تقول إحدى الصديقات، إنه عندما تهدر السماء بصوت "الميغ"، أوده أن يقترب أكثر، أن أفرد ذراعي باتجاه الجناحين المعدنيين "كبطلة التايتانك" وأترك للضغط الهائل الناجم عن الانفجار أن يحملني عالياً وأن يكون موتاً صاخباً ومرحاً
ترويض الوحش طالما لما يهزم بعد، يعني أن لا تستوي الحياة مع الموت، وأن لا تستوي الحرية مع العبودية
ملاحظة: العبارات بين قوسين مقتبسة من مقال ياسين الحاج صالح ترويض الوحش بعد استبدال كلمة السجن حصار بكلمة الحصار
(source)