هـذه قصـة مجـزرة المليحـة فشكـراً للأطبـاء الذيـن غـادروا سوريـا
عصر يوم الأربعاء 2-1-2013، كان رتلان طويلان ينتظران أمام كازية النورس. رتل للسيارات وآخر لأشخاص حملوا “البيدونات” لملئها بالبنزين اللازم لتشغيل المولدات. الكهرباء مقطوعة معظم الأحيان وكذلك البنزين. يقول سكان المنطقة أن الكازية لم يكن قد وصلها وقود قبل ذلك اليوم منذ مدة طويلة
المنطقة نصف سكنية، مقابل الكازية منزل وخلفها مجموعة فيلات، وتبعد عن بلدة المليحة نحو مئتي متر
يوجد فيها العديد من محلات النجارة والمستودعات وورشات الميكانيك. معظم المتواجدين من أهالي المنطقة والنازحين إليها وأصحاب سيارات النقل الصغيرة “البيك آب”.الحكيم أحمد أحد الأطباء الميدانيين في الغوطة، مرّ من هناك قبل دقائق من حصول الانفجار. يقول إنّه ما أن تجاوز المكان حتى سقط صاروخ من طائرة الميغ على الكازية
تبدو الكلمات محايدة بشكل كوميدي، حين تتحدث عن “صاروخ” من “طائرة حربية” سقط على “كازية” مكتظة بالناس
يقول الحكيم إن الأمر ليس صدفة شريرة، فبالكاد كانوا قد استوعبوا ما حصل حين سقطت قذيفتان في المكان نفسه.النيران تطال بأطرافها السماء. أشباح أجساد كانت قبل قليل تتحرك وتعطس وتتذمر من طيلة الوقوف
تفحمت على نفس وضعيتها في قلب النار والدخان. من لم يشاهد فيديو الشخص الذي كان يطل علينا من بين ألسنة اللهب وقد تفحم على دراجته النارية؟!الحكيم وصل إلى المكان وكانت أجساد الناس لاتزال تشتعل. بدأ بإسعاف عدد منهم وإرسالهم للمشفى الميداني.يقول إنّه لن ينسى أبداً مشهد شخص في الخمسينيات من عمره، كان جسده محروقاً بالكامل ولونه كلون الجمر. وهو لا يستطيع فعل شيء له، حتى لم يتمكن من فتح وريده.. لأنه لم يتبين له وريدا! بقي الشخص يصارع آلامه طيلة ساعة كاملة وأسلم الروح بعدها
علي، مُسعف ميداني، كان على طريق المليحة على بعد نحو ستمائة متر من الكازية حين سمع صوت الميغ وهي ترمي هدفها.أسرع إلى موقع الحدث. السيارات مشتعلة، أشلاء الناس متناثرة، وأصحاب المحالالمجاورة أسرعوا يحاولون إطفاء الحريق بوسائل بدائية، وكل همهم أن لا ينفجر خزان الوقود.يقول إن رائحة الموت كانت تطغى على رائحة الدخان وأغلب الموجودين تحولوا إلى “هياكل من الفحم” في ظرف دقائق.بدأ علي بمحاولة إسعاف من يمكن إنقاذه. تفاجأ بأنه لم يسبق له طيلة الثورة رؤية مشهد مشابه. لدرجة أنمعظم من تواجدوا في المكان لم يستطيعوا في البداية المساعدة في انتشال المصابين من هول ما رأوا
أول من أسعفهم علي، مصاب كان في وضعية الانبطاح، جرى نقله بالوضعية نفسها لشدة حروقه، لدىوصوله إلى النقطة الطبية أفاد الطبيب أنه توفي. بعد نحو ساعة ونصف، علم علي أن الشهيد هو ابن عمهالذي كان يبحث عنه منذ وصوله إلى الكازية. وقد استطاع أخوه التعرف عليه فقط من بقايا ملابسه
يروي ناشط ميداني آخر، أنهم عثروا على نحو ثلاثين جثة فوق بعضها البعض، بعد سحبهم للسياراتالمحترقة، وكأن الشهداء احتموا ببعضهم وبالسيارات لدى قصف المكان، ويروي أن أقسى ما في الأمر هوعدم تمكّنهم من التمييز بين شهيد وشهيد، جميعهم من غير ملامح، لم يعرف ابن المليحة من ابن زبدين من النازحين.في المشفى الميداني بدأ العشرات بالتوافد، مصابين وشهداء. لا يمكن لنقطة طبية واحدة استيعاب هذه الأعدادوتلك الحالات. خاصة أن معظمها حروق من الدرجة الأخيرة. وكالعادة، معظم الأطباء المتواجدين من طلابكلية الطب، كحالة الحكيم أحمد وزملائه. شكرا لمعظم أطباء سوريا الذين نأوا بأنفسهم عن الثورة أو غادرواالبلاد، وتركوا الطلاب يتحملون مسؤولية آلاف الأرواح بمفردهم
بدؤوا بإرسال المصابين إلى مشافي الغوطة الميدانية الأقرب إلى المنطقة. خاصة أن برميلا متفجرا ألقي علىعدد من الأبنية بعد نحو ساعتين ما أدى إلى وقوع مزيد من الضحايا في منطقة مكتظة بأكثر من عشرة آلافلاجئ، نحو 1800 عائلة من حمص والغوطة الشرقية ومناطق أخرى. معظمهم الآن نزحوا من جديد
المليحة أكملت دائرة جميع أشكال الموت السوري. احترقوا وهم أحياء، ولم تتحول النيران برداً وسلاماً، ولمتترك لنا حتى ما يدل على هوية معظم من رحلوا. النار لا قلب لها أو ضمير، لكن ليس إلى درجة ذلك الكائنالمسمى كابتن الطائرة الحربية. من رمى مع سبق الإصرار والتعمد بالقذائف والصواريخ، طوابير المصطفين من أجل عدة لترات من البنزين