حنين مبكرمن المبكر الحنين لثورة لم تنته فصولها بعد. لكن من لا تنتابه لحظات الحنين تلك بين حين وآخريبحث في الـ”يوتوب” عن أغنية “جنة جنة” بصوت عبد الباسط الساروت. عن هتافات القاشوش وصور الآلاف يهدرون في أحياء حماه المدينة. عن تظاهرات المزة وكفرسوسة وبرزة، واستعادة ذلك الشعور الغريب بالفرح الذي يقبض القلب. تبدو تلك الأيام بعيدة كأنها حصلت منذ دهر كلما طال الزمن، تراكمت طبقة جديدة من الصدأ فوق الدهشة الفرحة التي اعتادت تلك الأيام خلقها. تشكل الدماء المهدورة بسخاء، طبقة عازلة بين الانسان والحياة. المزيد منها يزيد من سماكة تلك الطبقة بين الشخص وذاته. لكن أيضًا أشياء أخرى كثيرة، لا تقل قسوة فيما تفعل بنا. يأتي الزمن الممتد كأنه بلا نهاية في مقدمتها.كنا جميعًا نستمع إلى “جنة جنة”، من غير أن يخطر لأحد أن يتوقف مثلاً عند عبارة “زغردولوا يا بنات.. شهيدنا لا مامات.. خادمات وحوريات.. بإذن الله على الجنة”!ربما لو أطلقت الأغنية في أيامنا هذه، لأثارت جدلاً غير منته حول صلة “الخادمات والحوريات” بالجهاد والارهاب. ربما لأثارت امتعاض المدافعين عن حقوق المرأة. ولقسمت شارع الثورة إلى تضادين عنيفين يكيلان التهم لبعضهما البعض، بين أسلمة الثورة وأبلستها. بين من يشتري ومن يبيع، من يخلص ومن يخون. ولاقتضى الأمر من الساروت أن يدلي ببيان صحفي يوضح فيه مقصده بلا لبس. فالثورة ليست للبيع! وحتى قبل وبعد أن يفعل ذلك، ستكون النزعة التدميرية المدهشة بعنفها، والتي انبثقت على مهل لكن بثبات خلال الأشهر الماضية، ستكون قد نالت منه على يد الطرف الآخر. لن يختفي الساروت إثر ذلك، سيبقى هناك في مكانه، لكنه كان ليفقد قدرته على الغناء. أو أنه سيغني، سيفعل ذلك دائماً، لكن بشكل لا يشبه ما كانه أبداً ليس أنّ تلك المواقف لن تكون في سوريا المستقبل. وليس أنّ تلك النزاعات لن تكون جزءاً لا يتجزّء من حياة السوريّين خلال وقت قد يقصر أو يطول. المشكلة فقط أنّها استعجلت المحتوم واستبقت أوانه. أنّها اتكأت بفجاجة على القبور المنحوتة كل يوم.أنّها نالت من ذلك الاحساس الطفولي والساذج الذي أمدنا بالقدرة على المقاومة طيلة شهور. أنّها اختزلت الرغبة في الحرية وحياة أفضل إلى، تقريبًا.. إحساس بالتحدي وصراع من أجل البقاء منذ أسابيع، كتبت “أم دوشكا”-الصبيّة مايا محمد أجمل مدوّنات الثورة- بوستا على جدارها على “الفايسبوك” ختمته بالآتي: “شوي شوي عم حس حالي عم إخسر سوريا من جوا.. وعم اكرهها أكتر وأكتر.. أنا عالطريق إني إكفر بسوريا كمان لا أحد يعرف “أم دوشكا” يمكنه أن يصدّق أنّها تكره سوريا.. أو تكفر بها. أعرف كم اقتضاها من الألم والشجاعة لتكتب ما كتبته. أعرف أنها تكره طغيان الموت والدمار. العدائية المفرطة التي حلت في الأشهر الأخيرة محل “المحبة المفرطة” خلال الأشهر الأولى. الواقع الفج بدل الأحلام الوردية. كان يفترض أن يُتاح لنا أن نعيش الحلم أطول قليلاً لا أن نعيش المرارة طوال الوقت، حتى بتنا نعجز عن التعامل معها. ماكان للجنة أن تطردنا من فردوسها وبالكاد شممنا رائحة التفاحة. ولا يعتقد أحد أنني أتذمّر.. أنا حتى لا أحب التفاح!#Arabic
من المبكر الحنين لثورة لم تنته فصولها بعد. لكن من لا تنتابه لحظات الحنين تلك بين حين وآخريبحث في الـ”يوتوب” عن أغنية “جنة جنة” بصوت عبد الباسط الساروت. عن هتافات القاشوش وصور الآلاف يهدرون في أحياء حماه المدينة. عن تظاهرات المزة وكفرسوسة وبرزة، واستعادة ذلك الشعور الغريب بالفرح الذي يقبض القلب. تبدو تلك الأيام بعيدة كأنها حصلت منذ دهر كلما طال الزمن، تراكمت طبقة جديدة من الصدأ فوق الدهشة الفرحة التي اعتادت تلك الأيام خلقها. تشكل الدماء المهدورة بسخاء، طبقة عازلة بين الانسان والحياة. المزيد منها يزيد من سماكة تلك الطبقة بين الشخص وذاته. لكن أيضًا أشياء أخرى كثيرة، لا تقل قسوة فيما تفعل بنا. يأتي الزمن الممتد كأنه بلا نهاية في مقدمتها.كنا جميعًا نستمع إلى “جنة جنة”، من غير أن يخطر لأحد أن يتوقف مثلاً عند عبارة “زغردولوا يا بنات.. شهيدنا لا مامات.. خادمات وحوريات.. بإذن الله على الجنة”!ربما لو أطلقت الأغنية في أيامنا هذه، لأثارت جدلاً غير منته حول صلة “الخادمات والحوريات” بالجهاد والارهاب. ربما لأثارت امتعاض المدافعين عن حقوق المرأة. ولقسمت شارع الثورة إلى تضادين عنيفين يكيلان التهم لبعضهما البعض، بين أسلمة الثورة وأبلستها. بين من يشتري ومن يبيع، من يخلص ومن يخون. ولاقتضى الأمر من الساروت أن يدلي ببيان صحفي يوضح فيه مقصده بلا لبس. فالثورة ليست للبيع! وحتى قبل وبعد أن يفعل ذلك، ستكون النزعة التدميرية المدهشة بعنفها، والتي انبثقت على مهل لكن بثبات خلال الأشهر الماضية، ستكون قد نالت منه على يد الطرف الآخر. لن يختفي الساروت إثر ذلك، سيبقى هناك في مكانه، لكنه كان ليفقد قدرته على الغناء. أو أنه سيغني، سيفعل ذلك دائماً، لكن بشكل لا يشبه ما كانه أبداً ليس أنّ تلك المواقف لن تكون في سوريا المستقبل. وليس أنّ تلك النزاعات لن تكون جزءاً لا يتجزّء من حياة السوريّين خلال وقت قد يقصر أو يطول. المشكلة فقط أنّها استعجلت المحتوم واستبقت أوانه. أنّها اتكأت بفجاجة على القبور المنحوتة كل يوم.أنّها نالت من ذلك الاحساس الطفولي والساذج الذي أمدنا بالقدرة على المقاومة طيلة شهور. أنّها اختزلت الرغبة في الحرية وحياة أفضل إلى، تقريبًا.. إحساس بالتحدي وصراع من أجل البقاء منذ أسابيع، كتبت “أم دوشكا”-الصبيّة مايا محمد أجمل مدوّنات الثورة- بوستا على جدارها على “الفايسبوك” ختمته بالآتي: “شوي شوي عم حس حالي عم إخسر سوريا من جوا.. وعم اكرهها أكتر وأكتر.. أنا عالطريق إني إكفر بسوريا كمان لا أحد يعرف “أم دوشكا” يمكنه أن يصدّق أنّها تكره سوريا.. أو تكفر بها. أعرف كم اقتضاها من الألم والشجاعة لتكتب ما كتبته. أعرف أنها تكره طغيان الموت والدمار. العدائية المفرطة التي حلت في الأشهر الأخيرة محل “المحبة المفرطة” خلال الأشهر الأولى. الواقع الفج بدل الأحلام الوردية. كان يفترض أن يُتاح لنا أن نعيش الحلم أطول قليلاً لا أن نعيش المرارة طوال الوقت، حتى بتنا نعجز عن التعامل معها. ماكان للجنة أن تطردنا من فردوسها وبالكاد شممنا رائحة التفاحة. ولا يعتقد أحد أنني أتذمّر.. أنا حتى لا أحب التفاح!#Arabic