top of page
Featured Posts

كلمة بمناسبة استلام جائزة ابن رشد للفكر الحر


تحية مودّة

أمَّا عن الشّكر, فلا أحسب أنكم تنتظرونه.. فالشّكر لثورات الربيع العربي عموماً، والسّوري البطل خصوصاً، الذي منحني وإياكم هذه

الفرصة النادرة حقاً في تاريخنا الشخصي والعام، لنكون أكثر إيماناً وثقةً بحقنا الإنسانيّ الأصيل في الحريَّة والكرامة..

منذ نحو عشر سنوات سمعت للمرة الأولى باسم فارس مراد. روى لي أحد المفرج عنهم من سجن صيدنايا العسكري قصة فارس، وكيف أمضى حتى ذلك الوقت، أي عام 2002، ستة وعشرون عاماً في المعتقل على خلفية عضويته في المنظمة الشيوعية العربية. دهشت أنني لم أسمع باسمه سابقاً! شخص أمضى كل هذه السنوات في المعتقل على خلفيةٍ سياسيةٍ، يفترض أن يكون أسطورةً.. كمانديلا.! وبدأت حينها مع عدد من الأصدقاء، بالعمل على جمع وتوثيق أسماء المعتقلين القدامى.. عبر سؤال المفرج عنهم, وبالاعتماد على ذاكرتهم، وبالتواصل شيئا فشيئا مع ذوي المعتقلين وعائلاتهم

أدركت أن فارس لم يكن أسطورة، لأن آلافاً مثله كانت تقضي عامها العشرين، أو الخامس والعشرين، أو الثامن والعشرين في المعتقل. وأن هذه “القصص” ليست ماضٍ أُسدِل عليه جدار النسيان، كما حاول أهالينا- نحن الجيل الذي لم يعش أحداث الثمانينات- إيهامنا بدافع من خوفهم. هو واقعُ مخفيٌّ يعيشه كل سوري بمفرده، وحاضر وطنٍ يأسرهُ الماضي بجميع أحداثه وآلامه، ويمتد في نتائجه إلى أبسط التفاصيل الصغيرة في حياتنا

كانت السنوات التالية بمثابة إعادة اكتشاف لسوريا وتاريخها وحاضرها، عبر عمليات الرصد والتوثيق وإحياء الذاكرة التي أراد النظام طمْسَها. والعمل على تسجيل ما أمكن من تلك التفاصيل التي تشكل تاريخنا الحديث. أجمل الأوقات وأكثرها إيلاماً، كانت زيارة المفرج عنهم، سماع حكاياتهم، كل منها بحجم حكاية وطن..

أحنُّ إلى تلك الأيام. إلى تلك المجموعات الصغيرة من الأصدقاء والنشطاء التي عملنا ضمنها خلال العقد الماضي. كانت معظم لقاءاتنا وأنشطتنا تتم ببالغ السريَّة، مستخدمين “شيفرات” خاصة للحديث والتنقل وتبادل المعلومات. وكلما أغلقنا الباب وراءنا نتوجس من عيون تراقبنا، أو من دورية أمنية تتربص بنا. كلما رن جرس الهاتف خشينا أنه استدعاء أمني لإحدى الفروع الأمنية. معظم الأصدقاء لم يسلموا من الاعتقال والمحاكمة تعسفياً. وحضور المحاكمات، كانت المناسبة الوحيدة التي نتمكن فيها جميعاً كنشطاء من التواجد بشكل علني، رغم أن هذه أيضاً لم تَخل من المضايقات الأمنية يوماً

قضينا خلال تلك السنوات، نشطاء ومحامين وعائلات معتقلين سياسيين، على رصيف محكمة أمن الدولة، أكثر مما قضيناه في أي مكان آخر. ذلك الرصيف الذي يختزل حكاية نظام جبار بقدرته على الظلم، وشعب جبار في تحمله للألم. على ذلك الرصيف لطالما انتظرنا سيارة السجن، ولحظة وصولها، لطالما سمعت صيحات الأمهات وشوهدت دموع الزوجات والأطفال. لا يعلمون إن كان أبناءهم المختفين منذ أشهر أو سنوات، داخل السيارة أم لا، لكنهم ينتظرون دائماً، وبلا كللٍ. هي حكاية عشرات آلاف المعتقلين والمختفين قسرياً في سوريا قبل الثورة

كناشطة حقوقية، كان تركيزي على رصد الانتهاكات وتوثيقها، لكن الجانب الأهم تمثل في التعامل مع ضحايا تلك الانتهاكات وذويهم. ليس الأمر فقط إظهار للتضامن أو مساعدة في شأن حقوقي. الأهم هو تلك الجدران التي كانت تتهاوى بيننا كسوريين وكبشر. جدران جَهد النظام عقوداً طويلةً على إعلائها بيننا، تخويفنا بعضنا من بعض، فقداننا الثقة بعضنا ببعض، وتوليد إحساسٍ بشعٍ لدى كل ضحية أو ذويه بأنهم وحدهم، وأن الدنيا تسير من حولهم بشكل طبيعي ولا أحد يلتفت لآلامهم ولا أحد يتحسس معاناتهم

في الأشهر القليلة السابقة للثورة، أصيب النظام بتوتر كبير، ما بين غير مصدق لإمكانية اندلاع احتجاجات في سوريا، وبين متوجسٍ من ذلك، يسعى كل جهده للقضاء على أية ظواهر احتجاجية مهما كانت صغيرة. أكثر المواعيد التي كنا نتحدث عنها حينها، هي مواعيد الاستدعاءات الأمنية. تلك الساعات من الرعب والمهانة التي لا يمكن مقارنتها بأوضاع الاعتقال في الفروع الأمنية وما تشهده من تعذيب وحشي وامتهان، لكنها من الناحية النفسية ليست أقل منها قسوة

مع هبوب رياح التغيير في تونس ومصر، أصبح وقع القمع في نفوسنا أكبر وأمضى. إذا استطاعوا فعلها فلم لا نستطيع نحن؟! لكن كيف في ظل هذا الخوف المعمم الذي زاده وطأة ازدياد حدة القمع يوماً بعد آخر؟ كان الإحساس ضاغطاً بأن الزمن يستعجل السوريين كي يهبّوا من أجل حريتهم. التصريحات الرسمية للنظام كانت تستبعد أيَّ حراك سوري، كثيرٌ من المحللين استبعدوا هذا الاحتمال أيضاً

بدأت اعتصامات صغيرة في العاصمة دمشق تضامناً مع الثورات العربية، قمعت بشدةٍ ووحشيةٍ! مظاهرة سوق الحريقة التي هتف فيها المتظاهرون “الشعب السوري مابينذل”. ثم مظاهرة الحميدية، ثم مظاهرة وزارة الداخلية، التي اعتقل على إثرها معظم أصدقائنا. ذلك في معظمه، كان على مستوى النشطاء والمثقفين أكثر منه على المستوى الشعبي. لا أحد فعلاً كان يعلم أن قلب السوري المفعم بالمظالم، يغلي في الظلام، وأن مظاهراتٍ عارمةٍ ستنطلق بعد أيام في مدينة درعا تنديداً باعتقال وتعذيب عدد من الأطفال الذين كتبوا للحرية على جدران مدرستهم

في ذلك الوقت كانت معجزة حقيقية تحدث أمامنا، ونعجز عن جلب اهتمام الإعلام وتصديقه بحدوثها. بدأنا بالعمل للحصول على أكثر تفاصيل ممكنة حول ما يحدث، أذكر أنني نبشت في دفتر هواتفي عن أرقام قديمة لمعتقلين وذويهم من منطقة درعا، وبهذه الطريقة استطعت الاتصال للمرة الأولى معهم، والحصول على معلومات من مكان تلو الآخر. والتواصل والتحدّث مع وسائل الإعلام المختلفة لتزويدها بها

بعد أسابيع قليلة، ظهر جليّاً أن سوريا ليست مصر أو تونس بالفعل، وأن النظام السوري لا مشكلة لديه في إطلاق رصاص على شبان ونساء وأطفال خرجوا يهتفون لكرامتهم ومطالبتهم “بالإصلاح” حينها

قررت التواري تجنباً للاعتقال الذي كان آتيا لا محالة. كان ذلك بتاريخ 21 آذار/مارس2011. وتركَّز جلَّ اهتمامي وقتها بالوصول إلى مصادر معلومات حيث استطعت، والتواصل مع الإعلام لحثهم على نقل الخبر والاهتمام به. فضلاً عن تسجيل ما يجري من انتهاكات، اعتقالات أو تعذيب أو قتل وسواها. وشيئاً فشيئاً، بدأت شبكة العلاقات تلك تتحول إلى عمل أكثر تنظيماً، يسعى للتواصل وتبادل المعلومات والخبرات والأخبار، ونجم عنه في نيسان 2011 تأسيس ما أسميناه: “لجان التنسيق المحلية في سوريا”. وبدأنا بالعمل على تشكيل مكاتبها الإعلامية والسياسية والثورية. مؤمنين بأن الثورة انطلقت ولن يوقفها شيء حتى تحقيق أهدافها، ومحاولين صياغة خطاب ورؤية سياسية للحراك الثوري. وخلال الأشهر التالية، كانت الانتهاكات السابقة للثورة قد أصبحت من الماضي. لم يكن هناك أيّ وقت للعمل على غير التفاصيل اليومية التي نعيشها ونسجلها: القتل المنفلت من كل ضابط، التعذيب الوحشي للأطفال، المجازر المتتالية..

بعد اعتقال زوجي وأخيه في أيار 2011، زدتُّ من احتياطاتي الأمنية، تنقلت كثيراً من منزل لآخر، من حي لآخر. مؤسف أن ابن المدينة ليس له انتماء مكاني واضح. في جميع الضواحي والأرياف، يبقى النشطاء المتوارون في مناطقهم. بينما دمشق، تحولت مدينة غريبة عن نفسها وعن أبنائها. ثكنة عسكرية مليئة بالحواجز الأمنية التي تقطع أوصالها. كلعبة المتاهة، يتعين علينا اختيار الطريق بعناية كي نتجنب المرور على تلك الحواجز بما يعنيه ذلك من التفتيش على البطاقات الشخصية والاعتقال الحتمي للمطلوبين. فلا يزال قلب دمشق، وأحياؤها القديمة التاريخية بمعزل عن الدمار الذي شهدته جميع المدن الأخرى. جميعناً يعلم أن تلك اللحظات آـتية لا ريب.. هو أكثر قسوة من انتظار موت محتم، احتمال دمار المسجد الأموي، قهوة النوفرة، سوق مدحت باشا، الشارع الطويل، حي العمارة…

بتُّ عاجزةً، بعد أشهر عديدة من الأيام المتشابهة، عن تكرار الكلام نفسه، عن ذكر عدد الشهداء، وتفاصيل تعذيب هذا الطفل أو ذاك الشيخ، عن تكرار قسوة أن يواجه البشر مثل هذا التوحش في القرن الحادي والعشرين. وتولدت لديَّ الشكوك في كثير ممَّا سبق وآمنتُ به. لذلك، فضلت الانشغال بالتفاصيل اليومية لثورتنا، لأنها وحدها ما كان يمنحنا القوة للاستمرار، خاصّة مع فقدان معظم الأصدقاء مع الوقت، منهم من استشهد، منهم من اعتقل ومنهم من غادر البلاد، ومنهم من افترق بنا الطريق، فأصبحنا خصوماً بعد أن كنا أفضل رفاق. الثورة بلا الأصدقاء الذين بدأنا معهم، موحشة وقاسية. تزيد من وحشتها حياة التواري ومآلاتها.. وأُدرك أنني تغيرت كثيراً خلال تلك الأشهر. رغم استمراري بأعمال الرصد والتوثيق، لم أعد أشعر بجدوى العمل الحقوقي بالشكل الذي كان عليه، ولا التواصل مع المنظمات الحقوقية الدولية

بقدر الإحساس الذي تولد داخلنا بأننا قادرون، ولا حدود لقدرتنا على إحداث التغيير، بقدر ما أحسست بعجز العالم على التعامل مع/ أو دعم ومساعدة شعب ثائر يقتل أمام أنظار العالم كل يوم.. ففي الثورة مناسبات كثيرة للنّواح بحرقة.. ليست دائما تتعلق بالموت… قد تنوح حين تسمع الأخبار الآتية من بصرى الشام, ودمار آثارها التاريخيّة وسقوط قذيفة أودت بسرير الأميرة. أو لمشاهدة أسواق حلب التاريخية وقد أصبحت أثراً بعد عين.. بعد أن حولتها القذائف إلى رماد

لعل التواري لم يعد فقط عن أعين جلادي النظام، بل عن كثير من الجوانب داخلنا، نسعى لتجنبها بما تحمل من آلام. يحن السجين إلى حريته وبيته وغرفته. في حياة التواري لا حنين إلى شيء، حتى أن فكرة الاستقرار تبدو اعتباطية، وكأننا ولدنا في اللامكان ولا شيء يربطنا بالماضي

في الحقيقة، يصعب أيضاً التفكير بالمستقبل. المستقبل الذي كنا لا نكف عن ترداد كيف نريد أن يكون خلال أشهر الثورة الأولى. اليوم يبدو هذا المستقبل غامضاً يشوبه الكثير من الخوف. المستقبل هو عائلات وأحبَّة، لكن مع حقيقة أنَّ أكثر من خمسة وثلاثين ألف شهيد قضوا حتى اليوم، كيف سيحمل ذويهم وأطفالهم آلامهم معهم في نقطة العبور إلى القادم! المستقبل هو ذكريات لعشرات آلاف ممن خاضوا تجربة الاعتقال وذله وتعذيبه. هو عدة ملايين من السوريين، أصبحت بلا مأوى، بعد أن أحيلت منازلها وممتلكاتها إلى ركام ورماد..!بالنسبة للنازحين في الداخل، فقد عاش كل منهم حتى اللحظة نزوحاً أوَّل، وثانٍ وثالث…في كل مرة ينتقلون إلى منطقة، تتحول سريعاً من منطقة لجوء إلى ساحة حرب، ويتعين البحث عن مناطق لجوء جديدة. لا تزال الدائرة تضيق عليهم. المناطق الآمنة نسبياً أصبحت نادرة ومكتظة إلى درجة هائلة. اللاجئون والنازحون، مثلهم مثل المعتقلين والشهداء، ليسوا أرقاماً. يسهل القول أنَّ عدَّة ملايين تتنقل من مكانٍ لآخر، نساء وأطفال وشيوخ. في كل مرة تضطر للنزوح بالثياب التي عليها. بطبيعة الحال، لا يوجه النظام إنذارا للمنطقة التي يهمُّ بقصفها بطائراته ومدافعه

أُفكِّر كثيراً في الألم المتولد عن لحظة الانتصار، حيث سيمتنع على أولئك الناس العودة إلى حاراتهم ومناطقهم ليعيشوا تلك اللحظة علها تعوض شيئاً من آلامهم. لا مكان ليعودوا إليه، إلا بعد فترة قد تطول من إعادة الإعمار. وحتى مع ذلك، فما الذي سيعيد إعمار ما تهدم في قلوب الناس، وما سلب من ذكرياتهم وتفاصيل حياتهم اليومية التي تركوها وراءهم على الجدران والطرقات التي تهدمت..أفكِّر، أنَّه قد لا يتمكن الإنسان من إنقاذ شخص من رصاص قناص أو قذيفة ذكية. لكن الأكثر إيلاماً أنه لا يتمكن من سداد حاجات بسيطة وأساسية كالغداء والكساء لأولئك المرحلين قسراً من بيوتهم. الكارثة الإنسانية تستولد نفسها مرة بعد أخرى في منطقة تلو أخرى. المنظمات الدولية عاجزة عن تغطية قدر بسيط من تلك الاحتياجات.. وكثير من النشطاء تحولوا بعد عسكرة الثورة خلال الأشهر الأخيرة، إلى نشطاء إغاثيين. كثير آخر منهم تحولوا إلى نشطاء حقوقيين، يعملون على رصد الانتهاكات وتوثيقها من واقع خبرتهم التي اكتسبوها خلال الثورة. آخرون تخصصوا في مجال الإعلام. المدهش، أنه وسط كل هذا الدمار والموت، لم يكف السوريون عن بناء قدراتهم ومراكمتها وتطويرها. في معظم المدن والمناطق، تم قطع خدمات الانترنت عنها منذ مدة طويلة. كنت أعجز عن تخيل القدرة على الصبر لدى شبابنا السوري، في قضاء عدة ساعات لرفع مقطع فيديو عبر انترنت “الديل آب”، أو حضور اجتماع كامل عبر الموبايل. أو ابتداع والبحث عن شتى الوسائل ليتمكنوا من التقاط خط انترنت، الوسيلة الأكثر استخداماً من قبلهم للتواصل فيما بينهم، ومع العالم والإعلام

وفيما نفذ صبر البعض وقرر المغادرة، لا يزال معظمهم يقاومون. شعارهم المفضل “سوف نبقى هنا”. خيار البقاء في الداخل في مثل هذه الظروف، خاصة للنشطاء الذين لا يرغبون في الانخراط المباشر في العمل المسلح، ليس بالأمر السهل. الأمر لا يتعلق بالشجاعة على الإطلاق بالمناسبة. هو بالدرجة الأولى يتعلق بالدور الذي اختار هؤلاء القيام به في الثورة، إيمانهم به وبها، رغبة في المساهمة بمساعدة من حولنا على الاستمرار، مقاومة بالعدوى، إحساس بأننا مدينون لأولئك الذين فقدوا حياتهم كي نصل إلى اليوم، ولمن سيفقدون حياتهم كي يصل غيرهم إلى الغد، رغبة بتحدي القاتل وما يحمله من موت. أملٌ بأن ما نصنعه اليوم قد يكون لبنة إعادة الإعمار غداً، إعمار ما تهدم بيننا وداخلنا. هو خليط من ذلك كله. لهذا، أعجزُ عادةً عن الإجابة عن سؤال، لماذا اخترتِ البقاء في سوريا؟، خاصة مع وصول الأمور إلى ما وصلت إليه

اليوم يطلق معظم العالم على ثورتنا مصطلح “الحرب الأهلية”. يحتجُّ البعض بأن هذا هو التوصيف القانوني للوضع، ويصرُّ آخرون على أن هذا هو توصيفه السياسي.! ينتابني الغضب، لأن العالم استكثر على ثورتنا حتى اسمها، انطلاقاً من تعقيد علاقاته ومصالحه. نعم كثرت أخطاء الثورة مؤخراً، لكنها سنة وثمانية أشهر من القتل والدمار. ومقابل كل خطأ برزت العديد من المبادرات والتشكيلات الثورية التي تعمل على مواجهة تلك الأخطاء. لا يمكن لصوت العقل أن يُسمَع دائماً في الوقت نفسه مع هدير الطائرات الحربية وجلجلة القصف وعويل الأمهات الثكالى. ومع ذلك لم يكف السوريون عن نقد أنفسهم. قد لا يتمكنون من تصحيح الأمور في أجواء حرب ونزوح. لكن صوتهم لم يخفت يوماً عن قول الحقيقة، عن الانتصار للحق. بينما تخاذل العالم حتى عن قولة الحق. ولم يقتصر الأمر على الحكومات والأنظمة، بل حتى نخب العديد من دول العالم، اعتبرت الثورة السورية بمثابة تصفية حسابات بين الامبريالية وتيار الممانعة، وفي كل مرحلة من مراحل الثورة، كانت ذريعة جديدة تستخدم للحيلولة دون مساندتها، من إسرائيل إلى القاعدة والجهاديين إلى حماية الأقليات إلى ضعف وتشتت المعارضة السياسية..

لم يكن حقُّ شعبٍ كاملٍ بتقرير مصيره, واختيار حكَّامه مما يدخل في أولويات أحد. ولم يكن التخلص من إذلال وجرائم أربعةِ عقودٍ مما يدخل في أولويات أحد.! والعالم، بشرقه وغربه، لم يخذل السوريين فقط. بل خذل أبسط مبادئ التضامن الإنساني. النتائج ليست فقط مزيد من القتل والدمار في سوريا، بل شرخاً سيصعب ترميمه في المستقبل القريب، وفقداناً للثقة، سيكون سبباً للعديد من التعقيدات التي نتوقع أن نشاهدها بعد انتهاء الثورة

هذا الواقع لن يجعلنا بحال من الأحوال نغفل وقفة الملايين من البسطاء شرقا وغرفا مع ثورة شعبنا، وتضامنهم معها بإمكانياتهم المتواضعة كمواطنين في غير موقع مسؤولية. لون يجعلنا نغفل وقفة أصحاب الكلمة مع ثورتنا، وضمن هذا الإطار تأتي حزمة من الجوائز الحقوقية والثقافية التي منحت لنشطاء وكتاب سوريين تكريما لثورة شعبهم وتضحياته

أذكر بعيد الإعلان عن الجائزة أن والدتي، السيدة السورية البسيطة، سألتني إن كان “ابن رشد” هو نفسه الذي ظهر في إحدى الأفلام وقد اضطهد وحرقت كتبه!… وحين أجبتها بنعم، ابتسمت برضى وسرحت بعينيها، وأنا أحسست بالامتنان العميق

هنا شعب يستحق الحياة كجميع الشعوب، لم يكن هناك من داعٍ للخوف من رغبةِ شَعبٍ في الحياة.. على الخائفين الآن أن يخشوا ما تراكم داخله نتيجة هذا الموت المستمر وسكوتهم عنه

شكرا لوجودكم ..ولكونكم جزءا من النداء الإنساني من أجل الحرية والكرامة والعدالة

bottom of page