أبيض..أبيض
لا زلت في حيرة من أمري تجاه البيان المشترك الذي أصدرته بعض المنظمات الحقوقية السورية مؤخرا تحت عنوان “أوضاع إنسانية سيئة للسجناء السياسيين ومعتقلي الرأي في سجن دمشق المركزي”.البيان الذي توسع في شرح ما يتعرض له المعتقلون السياسيون في سجن عدرا، من سوء معاملة وتمييز وحرمان من حقوقهم القانونية التي يتمتع بها السجناء الآخرون، تقدم بمجموعة مقترحات وتوصيات “لتحسين أوضاع السجون السورية”، جاء في مقدمتها:“العمل على إنشاء سجون عادية خاصة بالسجناء السياسيين تختلف في هيكلتها وطرق المعاملة فيها عن معاملة السجناء الجنائيين وهذا يتوافق مع التشريعات الفقهية والقوانين العادية التي فرقت بين السجين الجنائي والسياسي”.باعتباره بيانا حقوقيا، لا بد من قراءته وتوصياته ضمن المفاهيم الحقوقية بعيدا عن شطحات الخيال والأمنيات؛ وتلك المفاهيم تميز حتما بين السجناء العاديين والسجناء السياسيين، وتخص هؤلاء “بحظوة” في المعاملة على اعتبار أنهم أصحاب أهداف نبيلة اتفق معها المرء أو اختلف
ومع ذلك، فأول ما توارد إلى ذهني لدى قراءة تلك التوصية، احتمال أن تستجيب السلطات السورية لها في بادرة “حسن نية” تجاه المجتمع السوري، وأي من أبنائه هو مشروع معتقل رأي. وبناء عليه، تقوم بتكليف لجنة لتنفيذ المشروع، واللجنة تحتاج إلى التعاون مع مؤسسات وإدارات كثيرة لتحديد الأرض اللازمة للبناء، واختيار المهندسين وتأمين الميزانية المطلوبة للمشروع، ولأن بعض أعضاء اللجنة فاسدين، سيعتري عملها الكثير من التباطؤ والعقبات، ولأن الحكومة غير قادرة على تأمين الميزانية المطلوبة، قد يفتح باب التبرعات الشعبية للمساهمة في بناء سجن الشعب؛ الخ الخ.. لكن في النهاية، سيشاد الصرح العظيم، وسنحظى بسجن خاص بمعتقلي الرأي والسجناء السياسيين، وإن كان ذلك سيستغرق نحو عقد من الزمان أو أكثر بقليل
فالتوصية بالتأكيد لا تستهدف المعتقلين الحاليين، لكنها تأتي ضمن “استراتيجية” بعيدة المدى لضمان تأمين سجن يتوافق مع التشريعات الفقهية والقوانين العادية لمعتقلي الرأي خلال العقود القليلة القادمة
وهنا، أفقت من استرسالي في الخيال وعدت إلى أرض الواقع، حيث لا يزال سجناء الرأي يتوزعون ما بين سجن عسكري موصد على أسراره كالقلعة، وما بين سجن جنائي يهدف للنيل من هيبة السجناء السياسيين وصبرهم.بالتأكيد، المنظمات المذكورة تقدمت باقتراحها ذاك بحسن نية مسترشدة بالنظريات الفقهية والقانونية ذات الصلة؛ خاصة وأن الكثير من المعتقلين يشكون من أن جميع المطالبات والمناشدات تنصب على موضوع الإفراج عنهم بينما يتم تجاهل سوء ظروف اعتقالهم
تلك الظروف تتراوح ما بين القسوة المفرطة في التعامل على النمط العسكري- سجن صيدنايا العسكري مثالا- وما بين الابتذال على نمط مقالب النسوان في المسلسلات التي يقال أنها شامية، كما يحصل مع المعتقلين في سجن عدرا.ومن ذلك مثلا أن يحال الناشط مهند الحسني إلى محاكمة بتهمة “تزوير اسمه”، لأن الموظف المسؤول سها عن قيام الحسني بتسجيل اسمه في دورة لغة فرنسية ضمن الدورات التي تقام داخل السجن، ومعتقلي الرأي يمنع عليهم الاستفادة من أي نشاط مماثل
ومع ذلك، فالذي يثير التحفظ ربما، حيال التوصية بإنشاء سجون جديدة للسياسيين، هي المسيرة التي انتقلنا عبرها من مطالب “تبييض السجون” وإنهاء ملف الاعتقال السياسي إلى مطالب إنشاء سجون “بيضاء” تليق بالمعتقلين السياسيين
قد ينطوي ذلك على إقرار بالفشل والعجز عن تحقيق أي تقدم على صعيد ملف الاعتقال السياسي في سوريا بجهود الحراك الحقوقي السوري والدولي؛ وقد ينطوي على واقعية شديدة لا تقرأ في المستقبل، بناء على تجربة عقد مضى، إلا استمرارا للحاضر الذي هو بدوره استمرار للماضي، كأزمنة حافلة بحكايا الاعتقال السياسي ومآسيه.على أية حال، من يستطيع أن يعارض مطلب إنشاء مثل تلك السجون والاعتقال السياسي يسجل “ازدهارا” يوما بعد آخر؟
من يعتقد أن الجواب سهل فهو واهم؛ ليس فقط لأنه يتعارض والأمل الذي نعيش عليه وبه نقاوم جميع إحباطاتنا؛ بل أيضا، لأن هذا يوازي ربما الموقف الذي يجب أن يتخذه مناهضو حكم الإعدام في ظل استمرار رفض إلغاء هذه العقوبة، وحصر خياراتهم ما بين تنفيذه بالشنق أو الحقنة المميتة؛ الحقنة أقل وحشية ربما، لكنها لسوء الحظ تنتهي بصاحبها إلى القبر نفسه
(source)