تأميم دمشق القديمة
لم يكُن أمراً عادياً أن يبادر عدد من سكان وشاغلي المدينة القديمة، إلى الاعتراض على مشروع تحويل منزل قديم إلى فندق سياحي
في كل المشاريع المماثلة التي استدعت احتجاجات مماثلة، كان للمحتجين من غير النشطاء والإعلاميين مصلحة مباشرة للقيام بذلك، كأن يؤدي المشروع المعترض عليه إلى استملاك منازلهم أو محالهم، حماية القيمة الأثرية والتاريخية للمدينة ونسيجها الاجتماعي والثقافي، جرت استعارته من بعض المتخصصين والمتطوعين الذين كانت دوافعهم لا تنطوي على مصلحة خاصة ‘للاعتراض’ على تلك المشاريع
بينما تبدو دوافع الاحتجاج هذه المرة ذات طابع مختلف تماماً، عشرات التواقيع جُمعت في رسائل موجهة إلى وزارة الأوقاف بشكل أساسي، في محاولة لوقف تحويل منزل قديم ملاصق لضريح صلاح الدين الأيوبي شمال الجامع الأموي الكبير، إلى فندق. إحدى تلك الرسائل، تتحدث عن ‘المناظر السيئة والأعمال المشينة’ المحيطة بالجامع الأموي، في إشارة إلى المقاهي والمطاعم التي يرتادها المئات يومياً من مواطنين وسائحين، تتحدث عن مظاهر ‘التهتك’ و’صخب ضجيج الموسيقى والطبل والزمر الذي يتعارض مع التذكير وتسبيح السحر…’، وعن الحفاظ على ‘الأصالة في مواجهة فساد الأخلاق والنفوس
هذا مع أن المدينة القديمة بدأت التحول منذ سنوات قليلة مضت إلى منتجع كبير من الفنادق والمطاعم المتكاثرة باستمرار، فضلا عن أنها أبعد ما تكون عن اللون الواحد، فهي من أكثر المناطق اختلاطاً وجمعاً للأديان والطوائف، من الأحياء المسيحية إلى المقام الشيعي القريب من الأموي إلى الحي اليهودي سابقا، كما أن طابعها السياحي أصبح يطغى على ما سواه إلى حد بعيد
المشروع استثار نقمة واضحة لدى من اعتبروه تعدياً على مقدساتهم ومشاعرهم الدينية، على اعتبار أن المقام ينظر إليه كامتداد للأموي الكبير، ولعل ذلك كان من بين الأسباب التي لم تجعل القضية تستحوذ على اهتمام حقيقي من قبل من تصدوا لمشاريع مشابهة سابقاً، خوفاً ربما من أن يقال، إنهم يدافعون عن ‘الأصولية’ الدينية أو يتقاطعون في الرأي معها، خصوصا أن السنوات القليلة الماضية، زخرت بتدخل الجسم الديني في تفاصيل الحياة الثقافية والمدنية بشكل سافر وعلى غير المعتاد، (مهاجمة منظمات حقوق المرأة، ومنع مسرحية، ومصادرة كتب… إلخ
بل إن من أغرب ما سمعت حول الموضوع، الرأي القائل إن هذا الفندق سيساهم في ‘تحديث’ هذا الجانب من المنطقة الذي لايزال يتميز بطابع محافظ، ويختلف رواده إلى حد بعيد عن الجانب الموازي في الطرف الآخر الزاخر بالمطاعم والمقاهي. بكلمات أخرى، طرد هؤلاء ممن لا يتفق زيهم أو سلوكهم مع المظهر ‘الحضاري’ من المدينة القديمة، حتى يقوموا ‘بتحديث’ أنفسهم بما يلائم المظهر العصري للمدينة التاريخية
آخرون، استغربوا الصمت عن تحويل عشرات المنازل الدمشقية القديمة، بما فيها مشروع جديد بتحويل إحدى منازل عائلة الرئيس الراحل شكري القوتلي في المدينة القديمة -كما قيل لنا- إلى فندق، بينما تثار الضجة الآن حول تحويل هذا العقار بالذات المجاور لضريح صلاح الدين
والواقع، أن هذا لا يختلف عن ذاك، وأن حجج المؤيدين والمعارضين للمشروع على السواء، لا تخدم الموضوع الأساسي، ومن غير المجدي استخدام المدينة القديمة كساحة لتصفية الحسابات المتراكمة خارج أسوارها وبما لا ينفصل عن مجمل الوضع السياسي وتعقيداته وتراكماته
أجمل بيوتات المدينة القديمة أصبحت مغلقة تماماً في وجه معظم السوريين، ومعها أغلق باب الذاكرة على مَن سكنوها ممن صنعوا تاريخ سورية القريب، فكيف إذا أوغلنا أكثر في التاريخ
إذا كان هذا التاريخ يشكل عبئاً على أحد، فهي مشكلته وحده، لكن التصدي لمحاولة طمسه هي مشكلتنا جميعاً
وحتى لو وضعنا التاريخ جانباً، فإن ‘تأميم’ منازل دمشق القديمة لمصلحة السياح وتغيير وجه المدينة ومحاصرة تنوعها الذي تتميز به، ليس الاستثمار الوحيد الممكن. يقع على عاتق الدولة حماية إرثها الحضاري والإنساني، وجعله في متناول جميع أبنائها. الطابع الحقيقي للمدينة القديمة ليس في المسلسلات الشامية التي غزت الفضائيات، مقدمة صورة نمطية بائسة عن المدينة وأهلها، بينما على أرض الواقع تحث الخطى لتقديم واقع مغاير تماماً بكنس ما تبقى من روح المدينة وأهلها. ما بين الصورتين، مدينة حقيقية جميلة بتنوعها، حزينة بما يعتريها من إهمال رسمي يتواطأ مع جشع الاستثمار، وحائرة جداً، في ما يتعلق بالهوية التي يراد فرضها عليها قسراً
(source)