أضيئوا شمعة في ليلهم
في الصورة المرافقة للخبر، قدمٌ بحذاء وسخ تضغط على صدر شاب مرمي على الأرض، وفي التعليق كُتب «عمليات الاعتقال»، وفي إطار أصغر داخل الصورة، تظهر بعض النساء في مقدمة تجمّع من الأشخاص، «جانب من الاحتجاج» كتب في التعليق عليها، وفي تفاصيل الخبر، أن أسر الطلاب الإيرانيين المعتقلين، تجمّعوا أمام السجن حيث يقبع أبناؤهم وراء الجدران السميكة للمطالبة بالإفراج عنهم، كان الأبناء قد اعتقلوا إثر مظاهرات ضد السلطة.
«وأشعل المجتمعون الشموع ليحتفلوا، تحت رحمة برد قارس، بالقرب من أبنائهم في سجن أيفين ...».عدت إلى الصورة مراراً وتكراراً، أبحث في تفاصيلها الصغيرة، وأقلبها من زواياها من غير أن تسعفني برؤية المزيد، لكنها في كل مرة كانت تنقلني إلى مئات الصور المشابهة، وكأن الذاكرة حفظت ألبوماً ضخماً من تعبيرات الوجوه والنظرات، بعيد لحظات الاعتقال، بعد أيام منه، بعد أشهر أو سنوات، وجوه غاضبة وأخرى باكية وسواها تبتسم بهدوء يغطي ألماً وكبرياء، وفي الأعياد، تكتسي الوجوه أقنعة ويا ليتها تغطي العيون
من خبر عوالم الاعتقال والمعتقلين وعائلاتهم، يعلم تماماً، أنه لا أقسى ولا أمرّ من الاحتفال مع أشباح الأحبة عبر أسوار المعتقلات، وأنه لا أعمق ولا أجلّ من إيمان الأبوين والزوجة والأبناء بأحبتهم المغيبين قسراً، ومعاناتهم في ظلّ هذا الغياب، تلك الأسر تعيش السجن مرتين، مرة عبر الابن الغائب، والثانية بالإصرار على الاستمرار رغم وطأة المعاناة، من هنا كانت تحركات العائلات في غير بلد من منطقتنا الزاخرة بالمعتقلات. اعتصامات ولجان ورسائل، ضغوط مادية تعيشها، ومضايقات أمنية وعقوبات «عائلية» وأطفال يتفتح وعيهم على معنى «العدالة» بالمفهوم القمعي، وأمهات يرفعن صور الأبناء والصلوات يحجبها قهر مستديم. ينبغي أن يكون المرء حجراً كي يصمد أمام دموع الأمهات... المناضلات منهن صبراً، بشكل خاص
في سورية ولبنان ومصر والمغرب وفلسطين وغيرها كثير، كان لعائلات المعتقلين دور هام في إبقاء قضايا الأبناء حاضرة والدفاع عنها، وكان لهم أيضاً نصيب غير قليل، من حيف وتضييق لحق بهم
عدد من أبناء المعتقلين السياسيين في سورية نشروا أخيراً رسالة تهنئة بالأعياد ختموها بأن «الفرح لم يمر على أسر المعتقلين في أعقاب العيد... ومازلنا في حالة انتظار». والانتظار مهنة يحترفها هؤلاء بألم وشجاعة، تستحقّ أوسمة ووقفة تأمل
فمفهوم العقوبة في العالم الثالثي حين يتعلق بالسياسي، ينحو إلى درجة بعيدة باتجاه الثأرية من جهة، وتضييق الخناق على المعتقلين ليبرحوا الشأن العام من جهة أخرى. هل من تفسير آخر مثلاً لفصل زوجة الناشط المعتقل أنور البني من وظيفتها عقب صدور حكم قضائي-سياسي بحق زوجها؟
في دراسة أعدّتها منظمة حقوقية مصرية حول الآثار الاجتماعية والإنسانية للاعتقال، تحدثت عن مدى تعرّض أسر المعتقلين للضرر وأوضاعهم البائسة «... فأجهزة الأمن لا تكتفي باعتقال المواطن وإنما أيضاً تمارس التهديد ضد أفراد أسرته، وتتعرّض بشكل دوري لعملّيات تفتيش لمسكنهم ومراقبتهم، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية التي تعيشها الأسرة بسبب غياب المعيل...».نادراً ما تأخذ أوضاع عائلات المعتقلين حيّزاً يذكر من الاهتمام الحقوقي أو الإعلامي، ويتعاطف الناس أو «يشفقون» أو يدعمون كل بطريقته، مشرّداً أو فقيراً أو ضحية لكارثة طبيعية أو إنسانية،
مواقف مشابهة ليست بالشائعة في ما يتعلق بضحايا نكبات الاستبداد والعسف والاعتقال السياسي، يستحق هؤلاء يوماً خاصاً للاحتفاء والتذكير بهم، على غرار يوم المرأة والطفل ومناهضة الإعدام... إلخ. يستحقّون اهتماماً أكبر يهدف إلى تحقيق الحد الأدنى من التضامن معهم. ذلك بمنزلة إشعال شمعة في ليلهم الطويل من ناحية، وهو من ناحية أخرى يضيف بعداً إنسانياً غامراً، على قضايا انتهاك الحقوق والحريات الأساسية. ففي النهاية، لهذا المعتقل أكثر من اسم وتاريخ ميلاد وتاريخ اعتقال وقضية. لديه أيضا عائلة وبيت وحلم وتفاصيل صغيرة لا تنتهي، صودرت حتى إشعار آخر
هذا التضامن يجب أن يكون عابراً للحدود، طالما أن الألم واحد والهم واحد، وأشكال التضامن قليلة ومعنوية في أغلبها، لكنها بالغة التأثير في المعتقل وعائلته على السواء
في رسالة من عائلات معتقلين سياسيين في المغرب، يشكرون فيها من تضامن معهم، ويضيفون: «لا تستهينوا بأهمية تضامنكم، جميع رسائلكم، حتى أبسطها، تشكل حافزاً معنوياً حقيقياً لتلك العائلات وهؤلاء المعتقلين».قد أستثني للضرورة شكلاً واحداً من أشكال التضامن، في عيد مضى قدمت هدية إلى طفل لم ير والده المعتقل منذ ثلاث سنوات، سألني إذا ما كانت من والده! قالت الجدة، نعم أرسلها لك من الحجّ! الطفل لا يصدّق جدته، وأنا لا أصدق أنه صدّقها، ودفعاً للحظات قهر كهذه، حرصت ألا أقدّم الهدايا في العيد لأطفال المعتقلين
(source)