زوجات المعتقلين الأصوليين: “مجاهدات”، “فاضلات”، مهمشات
لم تعرض الفضائيات العربية المختلفة إلا ثواني معدودات لزوجات وأطفال مقاتلي فتح الإسلام أثناء خروجهم من “نهر البارد
معظم النساء منقبات، لا يمكن رؤية ملامح الوجوه والنظرات، بينما الخطوات باتجاه الباص الذي سيقلهن تعبة ونزقة. ومن الملفت الطريقة التي حملت بها أكثر من أم طفلها بين يديها خلافا للمعتاد. الطفل حمل بيد واحدة من خصره ووجهه نحو العالم المحيط به لا إلى صدر أمه التي لم تلفه بذراعيها. بدا كأنه “خرقة” أو شيء ما ترميه الأم على ذراعها بتعب ويأس. هل كانت حزينة لترك ساحة “الجهاد”؟ أم لتركها زوجها وراءها لمصير شبه محتم؟ أم تكون قد شعرت بالنقمة على زوجها الذي أقحمها وطفلها الرضيع في حرب خاسرة: قريبا ربما تصبح أرملة، وطفلها يصبح يتيما؟! هل توافقه فيما ذهب إليه؟ هل تعارضه؟ هل تحبه أم تحقد عليه؟في الأسئلة السابقة جانب من فضول، لكنها في جانبها الآخر تحمل أسرار العوالم التي تعيشها زوجة “الجهادي” أو المعتقل على خلفية إسلامية متشددة، وتجعل منها شريكة في “الجهاد” بشقه المعنوي، أدركت ذلك وقصدته أم لا
نساء “مجاهدات
أعود بذاكرتي إلى عشرات الزوجات اللواتي التقيتهن خلال السنوات القليلة الماضية بحكم نشاطي الحقوقي. وأقصد زوجات المعتقلين على خلفية إسلامية متشددة، أو أولئك الذين فقدوا إثر سفرهم إلى أفغانستان أو العراق.حالات قليلة هي تلك التي عرفت فيها الزوجة باتجاهات زوجها “الجهادية” وكانت مؤازرة له ومؤمنة بما يؤمن. هذه الحالات، يكون فيها الأزواج منخرطين بالفعل – وفقا للزوجات- في العمل “الجهادي”. معظم هؤلاء النسوة صغيرات السن، يتزوجن في عمر يتراوح ما بين 13-15 سنة. عادة يبدين جرأة ملحوظة وإيمانا لا متناهيا بما يؤمن به الزوج ويمارسه على أرض الواقع. هؤلاء النسوة اللواتي مازلن قانونيا في سن الطفولة، تطبق عليهن إلى حد بعيد المقولة الشعبية التي تطلق على من يتزوج بفتاة صغيرة “يربيها على إيده”. وهن بالفعل قد تربين على أيدي أزواجهن، على الإيمان الديني العميق ومنه إلى الإيمان بـالجهاد“، والتسليم للقدر الذي يمنحهن قوة وصلابة في مواجهة جميع الأخطار الأمنية التي تذهب عادة بالعائلة في مهب الريح. فالزوج في المعتقل أو مفقود، وطفل أو أطفال صغار يحتاجون لمعيل ورعاية، وامرأة فتية تنام على أحلام زوجها”الجهادية“وتصحو على حلم عودته إليها. بل يبدو أنهن يعتبرن هذه المعاناة”جهادا“معنويا موازيا لـ”جهاد" الزوج، ما يبعث لديهن إحساسا ملحوظا بالكبرياء والثقة بالنفس والأهمية
المرأة “الفاضلة
في حالات قليلة اعترف فيها أزواج بنيّتهم “الجهادية” أمام المحاكم، لم يكن للزوجات – وكن يجهلن الحقيقة من قبل- موقفا مؤيدا أو معارضا للزوج .عبارة “الله يهديه” هي أقصى ما يمكن أن يصدر عن الزوجة، بدون أن يعني ذلك أن موقفها من ناحية الانتظار والدعم المعنوي سيتغير. وهذا لا علاقة له على الإطلاق بموقف مؤيد “للجهاد” بحد ذاته، بل بموقف يتحلى “بأخلاق” الزوجة “الفاضلة”، التي تفترض بالزوجة التسليم والتبعية ومؤازرة الزوج في محنته وافتراض أن ما يفعله صحيح دائما وغير قابل للنقاش
جدير بالذكر أن بعض الزوجات كن يتخذن موقفا مواربا، لا يقود إلى تحملهن تبعة الجهر برأي مختلف وناقد للزوج، ويعبر ضمنا في الوقت نفسه عن رفض لسلوك الزوج “الجهادي”. يتمثل ذلك في إلقاء اللوم على صديق أو قريب للزوج “هو اللي ورطه الله ينتقم منه
معظم هؤلاء الزوجات ريفيات، غير متعلمات، ولا يعملن. معظمهن لم يعرفن ما هو أبعد من محيط المنزل والعائلة قبل حادثة الاعتقال. وليس لديهن خبرة حياتية تؤهلهن لمواجهة الظرف الجديد. لكن رد الفعل يكون عفويا نابعا من الكيفية التي تنظر بها المرأة إلى نفسها ودورها كما رسخ في ذهنها من خلال التربية الاجتماعية والدينية. ربما ذلك ما يدفعهن إلى عدم التفكير حتى بتوجيه الملامة للأزواج، خاصة في الحالات التي ثبت فيها انخراط الزوج بعمل “جهادي” ما. على خلاف ذلك، فإن العديد من زوجات المعتقلين على خلفية النشاط الديمقراطي السلمي، وإن كن يدفعن ببراءة أزواجهن، فهن يلمنهم على نشاطهم على اعتبار أنهم تسببوا بصدع في العائلة وبمشاكل مادية وأسرية عديدة بسبب ذلك النشاط. مع العلم بأنهن غالبا متعلمات ومعظمهن يعملن ويحظين باستقلالية معينة
للوهلة الأولى قد يبدو موقف هؤلاء سلبيا إذا ما قورن بموقف أولئك. لكن في الحقيقة، فإن التربية الاجتماعية لزوجات المعتقلين الإسلاميين، هي التي تملي عليهن ردود أفعالهن، بينما الأخريات، كان لهن موقفا صريح ينعكس في بعض الأحيان حتى في حياة ما بعد الإفراج عن المعتقل، ضغطا وتذمرا من الاستمرار في النشاط العام. وإن رأى البعض في ذلك سلبية ما، فعلى الأقل، هو اعتراف بدور الزوجة داخل أسرتها بما يتعدى الدور التقليدي “الفضائلي” وبحقها مشاركة زوجها، في اتخاذ القرارات التي من شأنها أن تمس مصير العائلة بأكملها
تواطؤ
في معظم الحالات الأخرى، لا تدري الزوجة عن نشاط زوجها شيئا. بل هي تدفع ببراءته دوما وأبدا – وهذا ليس ببعيد في أحيان كثيرة. لم أصادف حالة واحدة لزوجة طلبت الطلاق رغم طول فترة اعتقال زوجها أو طول محكوميته. فهو زوجها وأب أطفالها، وفوق ذلك “بريء”. وهي غالبا ما تتحمل وحدها بشجاعة بالغة، تبعات اعتقال زوجها من مختلف النواحي. وفي حالات كثيرة يفاجأ المرء بأن عائلة الزوج لا توفر لها ما تحتاجه وأطفالها ماديا، ما يضطرها إلى العيش على الصدقات أو للعمل في أعمال يدوية مختلفة أو “مياومة” في أراضي الغير – على اعتبار أن معظم حالات الاعتقال تلك تحصل في الأرياف الأشد فقرا. بل إن الزوجات هن في أحيان كثيرة – إلى جانب أمهات المعتقلين- اللواتي يتابعن قضايا أزواجهن في المحاكم وسواها، ويتكبدن عناء ومشقة ليس أقلها “كلام الناس”. فليس نادرا أن يثور لغط حول خروج الزوجة المتكرر من بيتها حتى من قبل عائلة زوجها، حتى لو كان خروجها يتعلق بقضيته وفي سبيل مساندته والوقوف إلى جانبه.عائلة الزوج بما هي صورة مصغرة عن مجتمع ذكوري قاس، لا تعترف للزوجة غالبا بـ“فضل” مقابل قيامها بدور الزوجة “الفاضلة”. وتعتبر صبرها وتفانيها في انتظار زوجها، واجبا هو من طبيعيات دورها كزوجة. اذكر حالة سيدة سافر زوجها إلى أفغانستان وقيل أنه قتل هناك. وبعد انتظار عدة سنوات، كان أهل الزوج يلفقون أخبارا تفيد بأنه مازال على قيد الحياة. الهدف أن لا تقوم الزوجة بالحصول على حكم قضائي بالتفريق لعلة الغياب – بسبب تعذر إثبات الوفاة. كان عليها أن تربي طفليها وحيدة بانتظار زوج لن يعود أبدا. ولو لم يأت الخبر اليقين أخيرا عن طريق الصليب الأحمر بتأكيد وفاته، لبقيت بانتظاره حتى آخر حياتها
مع ذلك فالزوجة لم تكن تتخذ موقفا معينا من الطريق الذي اختاره زوجها رفضا أو موافقة. كانت ستنتظره إلى ما لانهاية لو اعتقدت أنه مازال حيا. اعتبارات الانتظار هذه اجتماعية بحتة وفقا لما وصفت لي حينها، “خاصة مع وجود أطفال يعتقد أهل زوجي أنه لا يجوز أن يتربوا مع رجل غريب
تفاصيل “صغيرة
في التفاصيل “الصغيرة”، تظهر الرقة وينبثق ظمأ لا متناه إلى حياة الحب والرجل-الزوج. تتحدث الواحدة منهن عن وردة مجففة دستها لزوجها في الملابس التي ساقتها إليه في سجنه، أو عن المنديل المعطر الذي مررته له عبر شبك الزيارة، أو عن زجاجة العطر التي رفضت إدارة السجن إدخالها
خارج هذه التفاصيل لا تظهر غالبا إلا صلابة، يزيد منها ويرسخها، التعامل الأمني مع أسر المعتقلين، الذي يرفع من حدة الإحساس بالظلم والحاجة إلى تحديه معنويا
من عدم الإفصاح عن مكان اعتقالهم لشهور طويلة إلى منعهم من الزيارات، إلى الاستدعاءات الأمنية التي تطال أفرادا من العائلة والزوجة في بعض الأحيان، ما يجعلها طرفا مباشرا في القضية، ويوحد بينها وبين زوجها في مواجهة السلطة!وتزداد حدة هذه المواجهة المعنوية في بعض الممارسات الأمنية اللامسؤولة التي تتعرض فيها الزوجة لأسئلة تعتبرها خدشا للحياء أو مساسا بدينها والتزامها، من مثل سبب ارتدائها النقاب، وما إذا كانت تنزعج من لحية زوجها وغير ذلك. هذا إلى جانب الوضع المادي المأساوي غالبا، وجميع الظروف القاسية المحيطة بها، يمنحها قوة وصلابة لا يصعب أن يستشفها المرء من كلماتها ونظراتها. وإن كانت بالتأكيد لا تسعد بالدور الجديد المناط بها كربة أسرة تتحمل وحدها أو بالمشاركة مع عائلة الزوج، مسؤوليات لم تعتد تحملها من قبل، فهي بالتأكيد أجادت الدور الذي أوكل لها
امرأة جديدة
أستطيع الجزم بأن زوجات أولئك المعتقلين، هن غيرهن بعد اعتقال أزواجهن عمّا كن عليه قبل الاعتقال. من ناحية تحمل مسؤولية تختلف عن المسؤوليات التقليدية الموكلة لهن عادة، وخروجهن إلى مجتمع أوسع بكل ما يحمل من قسوة وغبن، ولعب دور لم يعتدن عليه مسبقا
كان من شأن لجان حكومية أو لجان مدنية لو كان المناخ الأمني يسمح بمثلها، أن تمد لهن يد العون ماديا ومعنويا ومساعدتهن ليلعبن دورا أكثر وعيا وأقل قسوة على حياتهن، سواء مع أطفالهن الذين تناولنا في مقال سابق تأثير هذه الأوضاع عليهم، أو مع أنفسهن حتى، خاصة في مرحلة ما بعد الإفراج عن الزوج
جدير بالذكر هنا، تجربة المملكة العربية السعودية في هذا الشق من الموضوع، والمتعلقة بإحداث لجنة خاصة من بين مهامها، رعاية أسر المعتقلين على خلفية إسلامية متشددة، وتقديم العون المادي والمعنوي لها، وتحييدها قدر الإمكان عما لا يد لها فيه
يبقى أن ما سبق هو محصلة مشاهدات عينية وعلاقات إنسانية جمعتني بأولئك الزوجات اللواتي يعشن ومجتمعهن الصغير ككل، على هامش الهامش، في عوالم فقر وبؤس وإهمال لأحوالهن. عوالم تجمع إلى حد بعيد بؤس المجتمع الذي يضطهد ذاته أو بعضها، جنبا إلى جنب مع بؤس سلطة ترعى هذا الاضطهاد وتؤسس له بأساليب معروفة
(source)