أُحجية جواز سفر
إما أن تبادر المنظمات الدولية إلى طرح مشروع ميثاق جديد لحقوق نشطاء الرأي والمعارضين العرب في السفر للعلاج! وإما أن تقوم دول العالم البعيد «السعيدة» بنقل تقنياتها الطبية الحديثة إلى بلداننا البائسة حتى في حفظ حيوات الناس
نظرياً، انتهاك عن انتهاك لا يفرق. وتقسيم الحقوق والحريات إلى أساسية وغير أساسية، لا ينتقص من أي منها أو يبرر انتهاكها أو تقييدها خلافاً للقانون. عملياً، هناك حقوق يقود انتهاكها إلى حجز الحرية، خسارة العمل، الدراسة، العائلة، أو حقيبة متكاملة من الأحلام والمستقبل المصادر. الاعتقال التعسفي لمدد تطول أو تقصر، هو أحد مسببات تلك النتائج
وهناك حقوق يقود انتهاكها وببساطة شديدة إلى الموت. وموت عن موت يفرق، لأن شخصاً معافى يسلم الروح إثر إصابته بجلطة قاتلة، تختلف حاله كثيراً عن شخص تقف روحه عاجزة عن مواساة جسد يذوي مع وجود إمكان لإنقاذه. وللحالة الأخيرة صور كثيرة تعبر عنها أفضل تعبير. فإما أن الجسد إياه يقع تحت يد جلاد تستهويه قذارة التعذيب وأدواته وضحاياه، ولن نتعب كثيراً في إيجاد الأمثلة التي تدلل على ذلك. أو أن يترك الجسد صاحب العقل «المشاغب» في معتقله ليواجه موته البطيء. وفي حالات أخرى كثيرة، أن يفرض هذا الموت بوسيلة حضارية و«نظيفة»، لا تكلف غير وضع إشارة إلى جانب اسم الشخص المعني في أجهزة الكمبيوتر الذكية، التي تحدد الحركة على معابر الدولة المعنية دخولاً وخروجاً. يطلق على هذه العملية اسم «منع مغادرة لأسباب أمنية».ضحية انتهاك عن ضحية، تفرق. لأن ناشطاً أو معارضاً معافى، يمنع من السفر «كعقوبة» و«تأديب» على نشاطه وحراكه العام، يختلف عن آخر يمنع من السفر للأسباب نفسها، مع أن حياته في خطر ويحتاج إلى علاج غير متوافر في بلاده
النائب البرلماني السابق والمعتقل السابق و«المواطن السابق» المعارض رياض سيف، ليس إلا حالة من حالات لا تعد ولا تحصى. وما منعه من مغادرة القطر حتى اللحظة لتلقي علاج غير متوافر في سورية من إصابته بمرض السرطان، إلا بمنزلة تجريده من حقه في «اختيار» الحياة، وهو بالمناسبة يختلف عن الحق في الحياة المتعارف عليه
يستوي في ذلك «مواطن» آخر من الأكراد الأجانب المجردين من الجنسية، الذين يعدون بالآلاف في سورية، وهو يحاول منذ أشهر الاهتداء إلى وسيلة للسفر - ولا يسمح للأكراد «السوريين» الأجانب بالسفر - من أجل علاج مرض لا علاج له هنا، لكن عبثا. فكيف إذا تحدثنا عن «مواطن» آخر يدعى فارس مراد، اعتقل على خلفية سياسية لمدة تسعة وعشرين عاما، وأفرج عنه منذ ثلاث سنوات، من دون أن يسمح له بالمغادرة لإجراء عمل جراحي غير متوافر إلا في بلدين أوروبيين فقط لا غير
ولأن القائمة تطول والأمثلة لا تنتهي، فلن أحول مقالي هذا إلى تقرير حقوقي، بل إلى تقرير أمني! فأقول: أمن عن أمن يفرق
الأمن والأمان يستهدفان البشر. هذا هناك، في العالم البعيد الذي نسمع عنه ونحسده بلؤم! وينقلب الاستهداف في بلاد قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، إلى تحقيق الأمن والأمان من البشر وليس لهم. الأمان من ألسنتهم وعقولهم وضمائرهم وأقلامهم وحرياتهم. أما متى وكيف امتد ليشمل - الاستهداف - أمراضهم وأوجاع أجسادهم؟ فهذا ما لم أجد له جواباً
ولأننا نريد العنب وليس قتل الناطور، فما يهمنا هنا هو النتائج لا المقدمات. فإما أن تبادر المنظمات الدولية الى طرح مشروع ميثاق جديد لحقوق نشطاء الرأي والمعارضين العرب في السفر للعلاج! وإما أن تقوم دول العالم البعيد «السعيدة» بنقل تقنياتها الطبية الحديثة إلى بلداننا البائسة حتى في حفظ حيوات الناس! وإما - وهو الأكثر قابلية للتطبيق - أن يعمد مبشرون جدد إلى نشر رسالتهم الجديدة بترسيخ الإيمان في قلوب المواطنين، تمهيداً لقبولهم قضاء أجهزة الأمن وقدرها
ويبدو الخيار الأخير أكثر «واقعية» لأن كل الجهود التي بُذلت وتبذل في هذا السبيل لم تحقق إلا نتائج متواضعة للغاية. هذا وخاصة، أن الدول التي تحفظ «أمنها» من حقوق مواطنيها، تبقى مستعصية على «الاختراق» وصامدة في وجه أي «تدخل أجنبي» لمصلحة حقوق الإنسان. يستوي في ذلك أن يكون هذا التدخل من منظمات دولية أو إقليمية أو من حكومات غربية، بطبيعة الحال، تحاول أن تتدخل لأسباب إنسانية أو سياسية، لا فرق
وأراني ابتعدت عن العنب والناطور سوية، فأختم بالقول، ببساطة شديدة، لا بأس أن تتنحى الاعتبارات «الأمنية» والسياسية قليلاً إلى الوراء، حين يتعلق الأمر بحياة إنسان أو بموته. وبالمنطق ذاته المبسط إلى حد التسطيح تقول الأحجية: إن مواطنا ما في بلد ما من هذا العالم، «يناضل» من أجل الحصول على جواز سفر للحفاظ على حياته. والسؤال يقول، ابحث عن هذا البلد في الخريطة واحصل على جائزة، بطاقة سفر إلى سورية
(source)