ما قاله الناس عن الحرب والوجود
خصص برنامج كلام الناس الذي تبثه قناة الاللبنانية حلقة هذا الأسبوع، للحديث عن الحرب الأهلية اللبنانية في ذاكرة اللبنانيين LBC . ثلاث ساعات ونصف خصص معظمها لتلقي اتصالات اللبنانيين، ليعلنوا موقفهم من الحرب الماضية، ومدى استعدادهم لحرب جديدة
عبر خط الهاتف، سُمعت أصوات تتألم. أنين جرحى، وعربات مسرعة لنقل الموتى، حطام منازل، بقايا أطفال وأشلاء أمهات. كانت بيروت على المذبح مرة أخرى، وكانت تصرخ معلنة براءتها من كل الجنون المحيط بها. الذاكرة ما تزال حية وتعاني
عن ذلك كله عبّر معظم المتصلين ممن شهدوا ويلات الحرب. كلنا كنا خاسرين، أعلنوا. مؤكدين بأن بقايا الرصاص والنار لا تزال في مكان ما حولهم، تذكرهم بعبثية ما حصل، وتزيد إصرارهم على أن يصبح الماضي مجرد ذاكرة غير قابل للتجدد
لكن ذلك لم يمنع أصوات أخرى من التعبير في الاتجاه الآخر. كلمات جريئة وقوية يحسد أصحابها على ممارسة حقهم في التعبير عنها! وإيصالها للجمهور لإظهار الحقيقة كما هي، بدون تنقيح وتجميل لصورة بالغة القسوة
أكد بعض المتصلين على أنهم مستعدون لحمل السلاح مرة أخرى للدفاع عن وجودهم. الوجود الذي لا يمكن حمايته بغير البندقية. البندقية لحماية الوجود. الحرب من أجل البقاء
لا يمكن إلا أن نتفهم معنى التهديد الذي يمس فئة إنسانية ما في "وجودها"، ما يدفعها إلى اتخاذ البندقية خيارا من أجل الدفاع عنه. نتفهم الإحساس بالتهديد والرغبة العارمة في الوقوف ضده والحفاظ على الوجود جغرافيا وسياسيا وثقافيا أسوة بغيرها من الفئات الأخرى
يمكن أيضا تفهم اتخاذ خيار البندقية من أجل خوض هذه "المعركة الوجودية"، في مجتمع لم يتعظ من تجارب الآخرين في الحرب، ولم يجرب بنفسه سابقا خيارها أو يذق ويلاتها. لم يشهد مئات آلاف القتلى والمعاقين والمفقودين وخسائر مادية تقدر بالمليارات
ما سبق يدفع للتساؤل، ما هو هذا الوجود الذي يسعى الإنسان للحفاظ عليه، ويكون تحقيقه متمثلا في الفناء؟ ماهي طبيعة هذه الحياة التي يسعى إليها عبر الموت. وكيف يمكن لذاكرة هائلة من الدماء والدموع والمعاناة، أن لا تكون حاجزا يحول دون التفكير في تكرار الماضي
تقول "باربرا ويتمن" في "الأنماط الثقافية للعنف": تسبب فكرة الكفاح في سبيل هدف وليس الهدف ذاته في أثناء الصراع مع عدو، ظهور حياة بطولية حيث يصبح القتال فضيلة ولا ينبذ العنف. فعملية تحقيق الروح يمكن أن تصبح دفاعا عن العنف والعدوان. نظرا إلى أن المرء يحقق ذاته فقط من خلال صراع حياة أو موت مع عدو
إن هيمنة فكرة تحقيق الذات من خلال هذا الصراع، تتجاوز الهدف الأصلي الذي ولّد هذا الشعور بل وتتجاهله عمليا. ألا يجعل ذلك من جميع أشكال الموت "الوجودي" مجرد عبثية؟
لكن عندما تعجز الذاكرة عن تشكيل عامل مناعي ضد تكرار ذلك الموت العبثي من أجل وجود مهدد، فذلك يعني أن صور القتلى والجرحى والأنقاض لا تكفي لتخبر البعض كم هي الحرب خبيثة. وكم أن التكوين الثقافي والمجتمعي للفرد، قابل لتكرار الانتحار عشرات المرات، وهو في كل مرة يدافع عن وجود ساعد الخصوم على إهداره
عودة إلى "كلام الناس" وبوحهم، فإن كلمات المحبة والغضب الرافض لأي عودة لنيران الحرب الأهلية، لا تلغي كلمات الخوف والغضب القابل للتحول إلى بندقية، لكنها بالتأكيد تعطي أملا وحلما لمستقبل من دون حروب "وجود" أو حروب "كرامة". وأكرر هنا ما قاله أحد المتصلين بـ"كلام الناس"، الذي يرفض أن يكون ضحية خديعة حرب جديدة تحت أي عنوان براق": الحرب يخطط لها العظماء، وينفذها "المهابيل" من أمثالنا"
(source)