عنف عن عنف.. لا يفرق
تستمر حملة المنظمة الأمريكية"Human Rights First" بعد أن أضفت توقيعي إلى العريضة التي وصلتني على بريدي الالكتروني من أجل إنهاء المعاناة الإنسانية لسكان دارفورفي السودان. ، قمت بتحويلها إلى عدد من الأصدقاء على قائمتي البريدية، ولم أفاجأ بعدد من الردود التي تلقيتها، والتي تحمل التقريع والتأنيب وشيئا من العتب ! أكثر هذه الردود مباشرة، كانت مجموعة التساؤلات التالية من أحد الأصدقاء: "لماذا قضية دافور دون غيرها، أين 5 ملايين فلسطيني و أكثر في الشتات؟
وآخرون يذبحون على مرأى من العالم أجمع، وأين القتلى الذين قاربوا المليون، والمهجرين في العراق، وأين المضطهدين في كشمير والشيشان، وأين المضطهدين في إيران، وأين هذه العواطف الإنسانيةالجياشة في جرائم البوسنة والهرسك، وأين العاهات التي أوجدتها أمريكا قبل أن تغادر فيتنام، وأين غيرهم؟
مثل التساؤلات السابقة، حملت بقية الردود معنى واحدا للمعاناة الإنسانية والعنف ضد البشر، هو ذلك الذي يرتكب ضد "الإسلام والمسلمين" أو على يد "الأعداء الإمبرياليين"، فيما لا يستحق ذلك العنف المرتكب من "الإخوة والأشقاء" إدانة تذكر
أكثر من ذلك أن أي إدانة لمثل هذا العنف من المجتمع الدولي – الذي لا ريب يتعامل بازدواجية المعايير ولا تخلو مواقفه أبدا من دوافع سياسية- تصبح سببا لنا كعرب ومسلمين من أجل غض النظر عنالفظاعات المتركبة ضد فئة من الناس، وعاملا من أجل التشكيك بما يتعرضون له من ذبح وتقتيل واغتصاب وتشريد
بكلمة أخرى، من أجل أن يعترف كثير منا بالمأساة الإنسانية في دارفور، لا بد أن تقوم الولايات المتحدة بتوجيه بعض صواريخها أو جنودها إلى تلك المنطقة، عندها فقط، يصبح هناك قتلى وضحايا وشهداء
يبدو الأمر أحيانا وكأنه من باب "النكاية" بأمريكا والمجتمع الدولي. فما يدعمونه – من باب حساباتهم الخاصة لا ريب- يجب أن نقف ضده ولو كان فيه حق لنا. بدون تفكر أو بحث أو نظر. ولأن للمجتمع الدولي مصلحة ما في إثارة قضية دارفور، يغدو الحديث عن المجازر والمعاناة هناك خدمة لصالح الغرب الإمبريالي لا يجوز أداءها له مجانا
وبغير أن ندري، استعرنا "ازدواجية المعايير" ممن نصفهم بالأعداء، واستسهلنا سفك الدم بغير محاسبة، مع أن تلك الدماء ليست إنسانيا أغلى من دماء الفلسطينيين أو العراقيين أو سواهم
وكأن المواجهة الطويلة والمستمرة مع الغرب والتي نقف فيها في موقع المحتلة أرضه والمستغلة ثرواته والمنتهكة سيادته، لم تضعفنا فقط، بل شوهت معنى الحياة لدينا وقيمتها. هذه القيمة التي تأدلجت وفقدت معناها المجرد لدى كثيرين
وعلى ذلك فإن موت ما بين 300-400 ألف إنسان في دارفور منذ عام 2003 كضحايا الصراع المسلح وتفشي الأمراض وتدني مستوى الظروف الإنسانية والمعيشية، فضلا عن تشريد مئات الآلاف، لا يشكل لدى كثيرين انتهاكا لحق الحياة ولا يدرج أولئك الضحايا ضمن قوائم ضحايانا الطويلة، من العراق إلى فلسطين
الاختباء وراء مفردات السيادة وعدم التدخل ومواجهة المخططات الإمبريالية في المنطقة، للتغطية على العنف المادي أو المعنوي ضد الشعوب والانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان في المنطقة العربية من قبل حكوماتها أو الجماعات المسلحة الخارجة على القانون فيها، يضعنا في مأزق أخلاقي حقيقي، حيث نبرر لأنفسنا ما نأخذه على الغرب من مثالب، إلا إذا كان مفهومنا للسيادة ينحصر في سيادة الدولة تجاه الدول الأخرى مع تجاهل كامل للحقوق الفردية ومقتضيات التطور والرفاه والحياة الكريمة العادلة للإنسان الفرد
كما أنه يحصر مفهوم العنف والجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان، في تلك المرتكبة من الأطراف الخارجية، ويجعلنا في موقع تغاضي عن تلك الانتهاكات لدى صدور أي موقف من تلك الأطراف للتنديد بها. وبهذا المفهوم، يجب اعتبار مطالبة الإدارة الأمريكية بين حين و آخر بالإفراج عن المعتقلين السياسيين في بعض الدول العربية – بغرض الضغط على تلك الحكومات لأسباب سياسية- مبررا لتوقف القوى الديمقراطية في تلك الدول عن المطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي فيها
ضحايا العنف المسلح في أي مكان من هذا العالم، وضحايا الاستهتار بحق الحياة الكريمة العادلة من قبل حكوماتهم أو من قبل أعداء حكوماتهم، لا يجوز أن يكونوا ضحايا مرة أخرى لمعادلاتنا ومواقفنا السياسية، وإلا كنا شركاء في ذلك العنف وتلك الانتهاكات، حتى إشعار آخر
(source)