شاهد حق عام
يتلذذ المستبدون الصغار بالاستفادة من الامتيازات الصغيرة الممنوحة لهم. بينما يشكو المستبدون الكبار من فساد أولئك وشرهم ودنائتهم، ويشيرون إليهم كلما تبجحوا "مثل هكذا شعب، لا يستحق غير مثل هذه المعاملة".يبدو الأمر بمثابة توزيع أسلحة فردية على من يرغب لاستخدامها ضد من يرغبون! هو قتل رمزي بالواسطة، لا يجرمه القانون ولا يلق فاعله عقابا عليه
لا يتطلب الأمر أكثر من ورقة وقلم، ورغبة بالانتقام السهل، والتمتع باستخدام السلطة في شكلها القمعي، ولو بأكثر صورها امتهانا. يطلق على هذه العملية في التعبير الدارج اسم "كتابة تقرير". والتقرير هنا هو شكوى من مواطن ضد آخر، يتهمه فيها بأنه شتم رئيس الدولة أو حقره أو نال من رموز أخرى في السلطة، بشكل لا يدع مجالا للشك بأنه "ضد مصالح البلد والوحدة الوطنية". الجهة الناظرة في الشكوى هي إحدى أجهزة الأمن. والعقوبة غنية عن التعريف
يخطئ من يعتقد بأن هذه الحرفة هي من اختصاص المخبرين الرسميين الذين يتقاضون أجرا على تقاريرهم. أو أولئك غير الرسميين، الذين يتوقعون مكافأة أو امتيازا ما على ذلك. وإلا لما قرأنا خبرا عن طالب يكتب تقريرا بمعلمه يودي به إلى السجن، عقب نقاش دار في غرفة الصف حول أحد المواضيع السياسية. أو مدرسات يكتبن تقريرا بزميلتهن -وهي أم مرضعة – بعد جدال دار في غرفة المدرسات حول أمور تخص الوطن، وهو ما أدى بها إلى الاعتقال بضعة أيام قبل أن تحال إلى القضاء الاستثنائي. أو عامل يفعل شيئا مماثلا بزميله بعد خلاف على تقاسم الأجر. والأمثلة أكثر من أن تعد.ليس بين الطالب والمدرسات والعامل من قواسم مشتركة كثيرة. هم لا يجتمعون لا في الجنس ولا في العمر ولا في المهنة ولا في الطبقة الاجتماعية. ولعل أحدهم لم يتلق مكافأة على ما قام به، اللهم إلا زج خصمه في السجن
صوَرت لنا الكوميديا السوداء مثل "مرايا" وبقعة ضوء" هذه الظاهرة في لوحات كثيرة. رسمت إلى أي حد بلغ انعدام الثقة بين الأخ وأخيه والزوج وزوجته وإلى أي حد شاع مناخ الخوف من الآخر مهما كانت درجة قربه أو بعده. لكنها حصرت هذه الممارسة ضمن إطار المنفعة- الامتياز المتأتية من وراءها، فيما يشير الواقع إلى غير ذلك
تشير الأمثلة التي ذكرناها، وهي على أية حال مستقاة من الواقع، إلى رغبة في إيذاء الآخر المختلَف معه في الرأي والرؤيا، وعقابه بأشد الطرق إثارة للرهبة في نفوس الناس، الأجهزة الأمنية. وسواء نقل "كاتب التقرير" حديثا دار بالفعل بينه وبين ضحيته، أو أنه اختلقه بعد خلاف شخصي لا يمت بصلة إلى السياسة والوطن! فقد عمد إلى تلبس صورة السلطة القمعية والضرب بسوطها. السلطة المحتكَرة حتى آخر نقطة، تمنح نفسها جزئيا ليتمتع بها "كاتب التقرير" ويشبع شهوته إليها. وليشعر ب"نشوة" أن يكون فوق القانون، وأن يكون سيدا على الآخرين ويتمكن من إذلالهم في قدر لا يملكون منه مهربا.ويمنح كاتب التقرير إحساس ذروة الانتصار، عندما يستدعى كشاهد حق عام أمام القضاء - الاستثنائي غالبا - ليعيد سرد ما ذكره في تقريره، أمام القاضي هذه المرة، فتشرعن قباحة فعله بقرار قضائي يجعل منه بطلا وطنيا ومن الآخر مجرما بحق الوطن. ومن بين جميع محاكمات الرأي التي حضرتها، لم أشهد لحظات مماثلة لتلك التي يمثل فيها كاتب التقرير أمام قوس المحكمة، ليحلف على الكتاب المقدس بقول الحقيقة بدون زيادة أو نقصان، ويسهب في رواية القصة كما سبق له وكتبها، ثم يغادر قاعة المحكمة رافعا رأسه بزهو، لكن من غير أن ينظر يمينا أو شمالا ، هربا ربما من النظر في عيني غريمه المتهم.فيما الأخير لا ينفك عن التحديق به وكأن له بذمته نظرة لم يستوفها بعد
ثقافة الوشاية الأمنية التي لقيت كل الرعاية والاهتمام لنشرها بين الناس، هي تفصيل صغير من تفاصيل صورة مجتمع أنهكه الفساد والاستبداد. مجتمع يعج بالمستبدين الصغار الذين يتهالكون للتشبه بأسيادهم. وهؤلاء، قد يعلمون أو لا يعلمون، كيف يكون مستقبل تربت أجياله على رفض الآخر والرغبة في إيذائه والتشفي به، وتوفير مختلف الوسائل لذلك، بدءا من قبول التقارير إياها والعمل بما جاء فيها فضلا عن التشجيع على كتابتها، مرورا بالمواد القانونية ذات العبارات المطاطة والقابلة للتأويل في ما يناقض حرية الرأي والتعبير، وانتهاء باستخدام القضاء ليحكم بالسجن "باسم الشعب السوري" على هذا الشعب، بموجب شهادة شاهد حق عام، يتقن فن الكتابة
(source)