كوفي أنان وإعلان دمشق-بيروت
لم يخرج كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة، خالي الوفاض من زيارته إلى سورية؛ إذ حصل على تعهدات بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701، ونقل عن الرئيس السوري بشار الأسد استعداد سورية لإقامة علاقات دبلوماسية، وترسيم الحدود مع لبنان. وفي مؤتمره الصحافي، أكد انان أن سورية تدعم القرار 1701، وأنها ستساعد الأمم المتحدة في تطبيقه
بعيدا عن أنان وزيارته، لا يزال الكاتب المعروف ميشيل كيلو، والناشط في حقوق الإنسان أنور البني،وزملاؤهما الأربعة من نشطاء ومثقفين (محمود عيسى، وسليمان شمر، ومحمد محفوض، وخليل حسين) قيد الاعتقال حتى اللحظة بسبب توقيعهم إعلان دمشق- بيروت الذي صدر في أوائل أيار من هذا العام، موقعا من عشرات المثقفين السوريين واللبنانيين، داعيا إلى تصحيح العلاقات السورية اللبنانية على أساس احترام سيادة واستقلال البلدين، وترسيم الحدود، وتبادل التمثيل الدبلوماسي؛ إضافة إلى جملة نقاط جوهرية أخرى، كالتمسك بحق البلدين في استعادة أراضيهما المحتلة، وضرورة احترام الحريات العامة وحقوق الانسان، وإرساء العلاقات الاقتصادية بين البلدين على الشفافية والعلانية والتكامل
وبعيد صدور الإعلان، شنت السلطات السورية حملة اعتقالات شملت عشرة من الموقعين، بالإضافة إلىاستدعاءات أمنية عديدة لآخرين. وأحيل المعتقلون إلى القضاء بتهم مختلفة، من بينها إضعاف الشعور القومي، وإذاعة أنباء كاذبة تنال من هيبة الدولة، وإثارة النعرات المذهبية والعنصرية
إضافة إلى ذلك، شن الإعلام السوري الرسمي، صحفا ومواقع إلكترونية، حملة شعواء ضد الإعلان وموقعيه، معتبرا أنه يتزامن بشكل "مريب" مع "السعي الحثيث الذي تبذله إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش لاستصدار قرار جديد من مجلس الأمن يدعو سورية إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان"، من دون أن ننسى مقالة الصحافية اللبنانية ماريا معلوف في إحدى الصحف السورية في أيار الماضي، والتي تتهم فيها ميشيل كيلو بتقاضيه مبالغ طائلة من مروان حمادة وتوزيعها على موقعي الإعلان! في محاولة لتشويه نخبة من المثقفين والنشطاء السوريين الذين بادروا للانضمام إلى الإعلان
وفيما أفرج، بعد حوالي شهرين، عن أربعة من المعتقلين العشرة عقب إنكارهم للتوقيع، لايزال الآخرون الذين تمسكوا بتواقيعهم قيد الاعتقال
والإعلان الذي أدى إلى ما أدى من اعتقالات واستدعاءات أمنية، لم يصدر تحت الفصل السادس أو السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولم يكن بطبيعة الحال بالتنسيق مع كوفي أنان أو مجلس الأمن، ولم تكن له سلطة التهديد بعقوبات أو فرض عزلة أو شن حرب، بل كان تعبيرا عن القلق الذي يساور موقعيه نتيجة ما وصف بالتدهور المتسارع في العلاقات اللبنانية-السورية حدا "بات يهدد بتكريس شرخ عميق بين البلدين الجارين والشعبين الشقيقين". وكانت في الإعلان رؤية المتبصر الذي يقرأ واقع الحال كما هو، ويستشرف بناء عليه آفاق المستقبل، ويطرح حلولا منطقية لما قد يطرأ من مشاكل وعقبات. وكان أولا وأخيرا، يحرص على سورية ولبنان دولتين مستقلتين حرتين خارج إطار أي ضغوط أو تدخلات دولية، وضمن إطار علاقات تحفظ لهما سيادتهما، وتؤسس للعلاقات بينهما على مبدأ التكافؤ والتعاون لا السيطرة أو التآمر
أن تدور الدائرة، وتتبنى السلطات السورية ما جاء في إعلان دمشق–بيروت، الذي تضمن جزءا يسيرا جدا بطبيعة الحال مما تضمنته قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالوضع في لبنان، فما هو إلا إقراربـ"براءة" معتقلي الإعلان، يستدعي الإفراج الفوري عنهم، والتعويض عليهم عما لاقوه من انتهاك لحقوقهم في التعبير والمشاركة، وعسف في المعاملة، وتشهير مسف بهم وبمواقفهم
والاستمرار في اعتقال موقعي الإعلان، في المقابل، يعني أن الإعلان كان مجرد حجة لتوجيه ضربة جديدة للمعارضة والمجتمع المدني في سورية، وأن جميع حملات التشويه والتشهير التي طالت الإعلان وموقعيه مردودة على أصحابها. فإن لم يكن ذلك، يكون المعنى الآخر أنه يجوز لأنان ما لا يجوز لغيره (وقد وصف وزير الخارجية السوري وليد المعلم مباحثات الرئيس السوري بشار الأسد مع الامين العام للأمم المتحدة كوفي انان بأنها كانت "مثمرة وبناءة"، وهي المحادثات التي تبنت ضمنا ما جاء في الإعلان)؛ أو بكلمات أخرى، يجوز للخارج ما لا يجوز للداخل. هذا الداخل الذي يجب أن يبقى مهمشا بعيدا عن الاهتمام والمشاركة في القضايا التي تمس مصير بلده وولده
على أي حال، الإفراج عن ميشيل كيلو وزملائه ومعتقلي الرأي والضمير كافة في سورية، يحمل بعدين لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر. الأول، أن يسترجع هؤلاء حريتهم التي حرموا منها لأنهم يستحقونها، ولأن بلدهم، أرضا وشعبا، أكثر حاجة إليهم بكثير من جدران زنازينهم. والثاني، كي لا يتمنى كل مواطن سوري أن يصبح كوفي أنان، أنه يحق لهذا المواطن إبداء الرأي أو مناقشة قضية مع مسؤولي بلده من دون أن يعتقل أو يُخوّن أو يُشهر به. فالأمم المتحدة ومجلس الأمن، والعالم بأسره، لا يزيدون أهمية عن مواطن سوري أحب سورية وآمن بالحرية، وكان على استعداد أن يدفع الغالي والرخيص في سبيلهما
(source)