حياة مشتهاة.. في يوم المعتقل السياسي السوري
المعتقل السياسي أو معتقل الرأي، هو ضحية انتهاكات الحريات العامة والحقوق الأساسية التي يتمتع بها الإنسان، هو جزء من قضية.. حرية وعدالة وإنسانية
هكذا كنت أراه في البداية
قبل أن أتعلم ضرورة الحصول على صورة للمعتقل.. أحدق فيها مليا.. أحاول رسم التغيرات التي يفترض أنها حدثت في ثنايا وجهه.. وعبثا أستطيع تخيله في غير الصورة التي أراها.. قبل عشر.. أو عشرين عاما ربما
وقبل أن أصاب بلوثة التلهف لمعرفة أكثر من عدد سنوات اعتقاله، وتهمته، وسنوات حكمه.. لمعرفة تفاصيله الصغيرة، تحكيها الأم المتشوقة لحديث لا ينتهي عن ولدها.. أو يرويها صديق له سبقه إلى الحرية
كان الأمر مرهقا.. أن يتحول المعتقل من اسم وقضية إلى كائن يعيش في عالمي أحسه بقوة.. وبألم
في أحد الأيام كنت أكتب تقريرا عن معتقل اسمه فارس مراد.. تحدثت فيه عن سنوات اعتقاله الطويلة.. ووضعه الصحي بالغ الصعوبة..... ، وأنني مشتاقة له جدا!!! هكذا.. لا أدري كيف
وبعد أشهر، في صباح أول أيام العيد، كنت أحمل باقة ورد متجهة إلى منزله، في اليوم التالي للإفراج عنه.. كان الفارس الذي عرفته، الذي أصبحت ألتقيه في أي منتدى أو اعتصام أو نشاط... يحلَق دائما، وكأن ثقل أوجاع جسده التي تركتها سنوات الاعتقال التسعة والعشرين، أنبتت له جناحين بدل أن تكبله بأصفادها.. تحدق في هذا الجمال ولا تكف عن الدهشة
بعد أشهر، كنت أحمل صورة مكبَرة لشاب وسيم اسمه عماد شيحة، تعود إلى ما قبل ثلاثين عاما من اعتقاله... كان من المفترض أن أرفع الصورة في مظاهرة يوم المعتقل السياسي التي قمعت بشدة، فرفعت الصورة على جدار إحدى غرف منزله... بانتظاره دائما
وبعد شهرين.. كنت أجلس قبالة هذا الشاب..أجري معه لقاء صحفيا.. وبالكاد أستطيع إخفاء رعشتي.. هو أصعب قليلا من لقاء شخص رحل عنك بعد معرفة.. هنا يجب أن تعيد اكتشاف هذا الإنسان وتطابق شخصه مع الخيال الذي رسمته له.. أين يتشابهان، أين يختلفان
كان أكثر ما يخيفني، أن ألمح آثار قضبان على أصابع المفرج عنه.. أو .. أن أجده مختلفا عن الشخص- الخيال الذي عرفته سابقا.. بالأحرى.. كنت أخاف أن لا ألمس الحياة فيه.. فذلك يشعرني بالهزيمة.. مع أنه هو من خاض المعركة.. وهو من دفع ثمنها
فكثيرا ما ذهب بسعادة العودة للحرية، لقاء معتقل سابق نال الاعتقال من روحه وعزيمته.. ليس لي الحق بمطالبتهم أن يكونوا "سوبر" معتقلين، وأن يمحوا بجرة قلم صفحات طويلة ملطخة بالألم.. أنا أتمنى فقط أن يلحقوا الهزيمة بالسجان بكل مايمثله من قيد وقمع ونفي، بالبقاء على قيد الأمل
بعد فترة.. كنا حشدا من الأصدقاء.. كانت كأجمل مظاهرة.. وأقوى اعتصام.. وأكثر البيانات بلاغة إلى "الرأي الخاص السلطوي".عماد شيحة يوقع في معرض الكتاب روايته الأولى "موت مشتهى" التي خطها في المعتقل، وكتابه الأول الذي ترجمه بعد عودته إلى الحرية.. وإلى جانبه صديق دربه فارس مراد ، يضيء المكان بفرح يجعلك ترغب بالحياة أكثر، وتؤمن بها أكثر..كانت لحظات أقل ما يقال فيها أنها سحرية..هي لم تمح أبدا ثلاثين سنة اعتقال، لكنها انتصبت فوقها عاليا جدا
أستذكر تلك اللحظات، بعد أن مر يوم المعتقل السياسي السوري مرورا هادئا مزعجا، بغياب أية فعاليات مفترضة في أوساط المعارضة والمجتمع المدني. وبعد أن سمعت من بعض الأصدقاء عبارات تنم عن الإحباط واليأس الشديدين. فيما أنا – وعلى الرغم من طبعي النكد – أشعر بالسعادة!من يصدق أنه وبعد سنوات القمع الطويلة المستمرة هذه، بعد الليالي المظلمة في تدمر وصيدنايا وعدرا، بعد الإعدامات وحفلات التعذيب والأحكام مسبقة الصنع، وبعد كل هذا الجهد المضني لتدمير أقدس وأجمل ما في الإنسان ، أن يبقى هناك من يخرج من معتقله مضيئا كشعلة، وأن يبقى هناك من هو مستعد دائما لدخول ذات المعتقل ليضيء علينا من داخل زنزانته رغما عن أنف سجاني العتمة. كأن فعل الاعتقال أمسى أكثر من أي وقت مضى يرتد على مرتكبيه كفعل مقاومة ضدهم
أشعر بالأسى لحال معارضة يمر فيها يوم المعتقل السياسي السوري كأي يوم آخر. لكنني بالتأكيد مفعمة بالأمل في وطن يضم فارس وعماد وعارف دليلة وعلي العبد الله وأنور البني... وتطول القائمة التي ما تزال مفتوحة الاحتمالات، على هؤلاء الذين أثبتوا ويثبتون دائما، أن أسواط السجان وزنازينه، يمكن أن تتهاوى كأوراق يابسة، أمام تلك الشهوة التي لا تنطفئ في الحياة والحرية
(source)