"توافه" الوضع الداخلي
جلس الشيخ المسنّ أرضا أمام سيارة السجن وهو يصرخ بصوت أجش "لن أتحرك من هنا حتى تسمحوا لي برؤية ابني".. أعطى الضابط أوامره بإزاحة الأب "فشحطوه" بعيداً فيما هو يصيح "موتوا موتوا، الله يلعنكم ، موتوا"! شكل الحرس حاجزاً مدججاً بالهراوات ما بين الأهالي وأبنائهم المقيدين بالسلاسل"، وما هي إلا دقائق حتى انهالت الهراوات على النساء والشيوخ والشباب ..الأطفال ينتحبون، والنساء يتعالى صراخهن، والرجال يهربون من وقع العصي على رؤوسهم. لم أنقل هذه الصورة من على شاشة التلفاز لمظاهرة ضد جدار الفصل العنصري في الأراضي المحتلة، نقلتها حية من أمام "محكمة" أمن الدولة بدمشق يوم محاكمة 14 معتقلاً على خلفية إسلامية ، تجمعت عائلاتهم مطالبة بمنحهم حق زيارة أبنائهم بعد طول فراق. كان الشيخ المسن يوجه الدعوة بالموت لنا جميعاً نحن الواقفين بالقرب منه: بقية العائلات، النشطاء، الحرس والضباط والمخبرين. ينعتنا جميعا بالظلم والجبن، نحن الذين حرمناه من رؤية ولده المعتقل لأكثر من سنة ونصف السنة حتى الآن!!.. لم تتقبل العائلات دعوة الموت المهينة، وانطلقت بهتافات ضد الأحكام الاستثنائية والطوارئ ، كان المشهد ممعناً في الألم ، لا تخفى فيه نقطة الضوء.. لعلها المرة الأولى التي يُسمِع فيها سوريون خارج إطار المعارضة أصواتهم عالية ، يتمردون سلمياً على ممارسات القهر التي تستمر السلطة في إلحاقها بهم.. نساء يرتدين الجلابيب السوداء ويسدلن المناديل على وجوههن، وأمهات بالزي الريفي البسيط، رجال وأطفال وشبان، احتجوا جميعاً بصوت واحد ضد الإمعان في الإذلال وانتهاك الحقوق.. ثارت العائلات بعد طول صمت ، على عسف المخابرات العسكرية التي اعتقلت أبناءها خلافا للقانون، وعلى مهازل "محكمة" أمن الدولة التي تمثل فرعاً أمنياً ملحقاً بالأجهزة الأمنية الأخرى، ومكملاً لدورها في إلحاق أقذر الممارسات بالمعتقلين وعائلاتهم . قبل أيام من مظاهرة أهالي منطقة العتيبة أمام "محكمة" أمن الدولة العليا بدمشق، أوردت منظمة العفو الدولية في بيان لها أنباء عن الشاب سراج ابن التسعة عشر عاماً الذي يرقد ما بين الحياة والموت . تعرض سراج ـ الذي اعتقل على خلفية إسلامية وفقا للمنظمة ـ لتعذيب شديد أثناء اعتقاله في فرع الأمن السياسي، ما أدى إلى نقله إلى أحد المشافي الحكومية وتسليمه فيما بعد لذويه مشارفاً على الموت، وعائلته لا تجرؤ على اتخاذ إي إجراء حيال ما جرى لولدها أو التعاطي مع جهات حقوقية أو إعلامية، فهي على الأرجح تعرضت للضغط من أجل نسيان ما حصل والاكتفاء بحطام سراج مسجى على سرير ، مثخن بجلطات في القدمين، وبمرض ذات الرئة، وأعراض أخرى يصعب التخيل كيف اجتمعت كلها في جسد فتي واحد. ربما مع ذلك تكون حالة سراج أخف وطأة من حالات أخرى، على الأقل والدته تملك أن تنظر إليه وتمسح على جبينه وتتلو الصلوات فوق رأسه. أما أمهات شبان كمصطفى نور الدين ورمضان سلمو اللذين اعتقلا منذ حوالي السنتين و لا يعرف لهما أثر منذ ذلك الحين ، فلم يبق لهن إلا لوعة عميقة وعذاب لا يفتر، لم تختبره إلا أمهات المفقودين منذ عقد أو عقدين. بالمناسبة، لم يكن معتقلو خريف دمشق من بين الـ190 المفرج عنهم ليلة العيد الماضي، فالزنازين تتسع للجميع إلا لهم، تماماً كما الوطن يضيق على الجميع، إلا عليهم . ينصحني أحد الأصدقاء بأن لا أنفعل كثيراً حيال الانتهاكات التي نتعامل معها كنشطاء حقوقيين، لكني تعبت ولم أعد أقوى على قراءة البيانات وكتابة المقالات ولقاء أهالي ضحايا الانتهاكات. أود لو أستطيع أن آمر بإحالة رؤساء الفروع الأمنية ورئيسي وأعضاء محكمة أمن الدولة والمحكمة الميدانية العسكرية إلى القضاء لمحاكمتهم عل" الجرائم التي ارتكبوها مازالوا يرتكبونها بحق السوريين، لكن على الأرجح فرئيس الجمهورية لن يتساهل معي على الإطلاق، لأنني غير وطنية، وصوتي يعلو في الوقت الذي تزداد فيه الضغوط على سورية، وأتكلم في توافه الأمور متجاهلة القضايا الكبيرة.
مازال يضيق ..هذا الوطن.
(source)