الشباب السوري.. متدخلاً في ما لا يعنيه
لم يرجع التآلف بعد بين المجتمع السوري والعمل العام.. وذلك لا يعود إلى جفاء المجتمع أو إلى غرور العمل العام... إرث حقبة الثمانينات الأليم، سياسات التطويع والتلقين والعسكرة التي اتبعت جيلا بعد آخر، والتربية المنزلية القائمة على ثنائية الخوف والسلبية الناجمة عن تجربة المرحلة السابقة.. فضلاً عن مشاكل اقتصادية متردية ومشاكل اجتماعية تزداد عمقاً باضطراد.. ذلك كله، جعل يقظة الحراك العام مرتبكة إلى حد كبير.. خاصة أنه لم يتح لها العودة الهادئة في أجواء الانفتاح وإطلاق الحريات، والاعتراف بالآخر. ما حصل هو العكس تماما، فيما خلا أشهر قليلة أطلق عليها مجازاً إسم "الربيع". نشطاء المعارضة والمجتمع المدني، يضيفون إلى ما سبق سببا آخر، لا يقل أهمية عما ذُكر. فالشكوى من عزوف الجيل الشاب عن العمل العام، وافتقار الحراك الديمقراطي السوري للدماء الشابة، أمر أصبح مألوفاً سماعه في مناسبات عديدة، وإن كان التعاطي معه يعاكس في أحيان كثيرة ما يقال عنه، كما سنرى لاحقاً. لكن، في الحقيقة، الحراك الشبابي لم يكن غائبا خلال السنوات الخمس الماضية، بل على العكس، فقد ظهرت بعض الفعاليات التي كانت تنبئ بقادم أفضل، لولا أن تم تطويقها وجرت محاولات القضاء عليها، على اعتبار أن تدخل الشعب في السياسة والشأن العام، هو نوع من التطفل على ما لا يجوز له الاقتراب منه. ..."أنتم ماذا تدعون بعضكم البعض"؟ فلم أفهم عليه.. فأخذ يشرح: "يعني ماذا تقول مثلاً عنهم، يعني تقول رفيق، أخي، أم ماذا؟".. فأجبته بسذاجة وتعجب من السؤال: "أقول الشباب"، فلما نطقت بها، قال للكاتب اكتب: "ويصطلحون فيما بينهم على كلمة (شباب) لنداء بعضهم البعض!.." من شهادة حسن خليل الكردي أحد معتقلي داريا المفرج عنهم ـ المقطع مقتبس من التحقيق أمام المحكمة الميدانية العسكرية. ما قام به شباب وشابات منطقة داريا، ذوو الخلفية الدينية المستنيرة النابذة للعنف والمؤمنة بالعمل المجتمعي المدني سبيلاً للتغيير، هو حراك يستحق التقدير. "كان شباب داريا هؤلاء وأستاذهم قائمين بشكل أساسي على معهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم في مسجد أنس بن مالك في داريا، ليحولوا المعهد من معهد لتحفيظ القرآن إلى مشروع مؤسسة للتعليم الديني، وليخرجوا من إطار التعليم إلى الاهتمام بقضايا الشارع والتفاعل معها.. ." من الشهادة السابقة. وقد عبر الاهتمام بقضايا الشارع عن نفسه بتنظيم حملات لتنظيف المنطقة.. وإقامة حملات ضد الرشوة.. والدعوة إلى نبذ العنف والتظاهر الصامت احتجاجاً على الاحتلال الأمريكي للعراق. هذه الأنشطة، بالشكل الحضاري الذي جاءت فيه، وبالأهداف الواعية التي ابتغتها، ومحاولتها مخاطبة الآخر وإيصال رسالتها إليه بوسائل بسيطة ومبتكرة في آن معاً.. هذه الأنشطة كانت سابقة في حراك المجتمع المدني السوري، الذي اختار بالمجمل العناوين العريضة و"القضايا الكبيرة" أساسا لحراكه، ما فوت عليه فرص التواصل مع عدد أوسع من فئات المجتمع، من دون التغاضي عن الظروف الأمنية التي تحد إلى درجة كبيرة من حرية نشاطه.. في أيار 2003 تم اعتقال أكثر من عشرين شابا من المنطقة، بعد سلسلة من الاستدعاءات والمضايقات الأمنية. وفيما أفرج عن معظمهم على دفعات، لا يزال أربعة منهم قيد الاعتقال، يقضون حكماً صدر عن محكمة ميدانية عسكرية بالسجن أربع سنوات بتهمة "تنظيم ديني غير مرخص!!" : عميد في الجامعة (28 عاماً) خريج جامعي (26 عاماً) مهندس ميكانيكي (28 عاماً) ومحاسب (26 عاماً). في تجربة مختلفة تماماً عن سابقتها، وفيما يشبه عودة الروح إلى الجامعات السورية التي طال مواتها. شارك قرابة 400 طالب وطالبة من مختلف الكليات في اعتصام يوم 25 ـ2ـ 2004 في جامعة حلب.. جرى الاعتصام احتجاجاً على المرسوم الذي قضى بإنهاء التزام الدولة بتعيين خريجي كليات الهندسة في الوظائف العامة.. وهو ما يعطي هذا الحراك أهمية مضاعفة، من حيث كونه أول نشاط طلابي احتجاجي منذ زمن بعيد، يقول فيه الطلاب كلمتهم بأمور تمس صميم مستقبلهم وحياتهم، وذلك بعد أن كان أمر تقرير الأفضل لهم منوطا لسنوات طويلة بـ "الاتحاد الوطني لطلبة سورية" وتوابعه.. فضلاً عن الروح التضامنية التي لفَت الاعتصام بمشاركة طلاب وطالبات من مختلف الكليات، ومن مختلف التيارات بما فيها بعض الطلاب البعثيين والكثير من الطلاب المستقلين. لم يكن من المتوقع أن تغض السلطة النظر عن هكذا حراك في أكثر الأوساط قابلية للنشاط والعطاء والإزعاج!! تم قمع الاعتصام السلمي بالقوة وتوقيف عدد من الطلاب لعدة ساعات قبل الإفراج عنهم. تلا ذلك تحويل عدد منهم إلى "لجان الانضباط" التي أصدرت قرارات فصل نهائي من الجامعة بحق خمسة طلاب وطالبات وفصل موقت بحق طالبين بالإضافة إلى توجيه إنذار لأربعة آخرين، توزع الطلاب المفصولون بين كليات الطب والهندسة والحقوق والآداب. بتاريخ 24 ـ3 ـ 2004 تم اعتقال أحد عشر طالباً من جامعتي دمشق وحلب، في مقهى جامعي بدمشق، كان من بينهم عدد من المفصولين السابق ذكرهم، وفيما أفرج عن تسعة منهم بتاريخ 5 ـ 5 ـ 2004 بقي اثنان قيد الاعتقال و أحيلا إلى "محكمة" أمن الدولة العليا بتهمة "مناهضة أهداف الثورة"، وأفرج عنهما منذ عدة أشهر. مناهضة أهداف الثورة؟!! تهمة مهيبة، تناسب "خطر" نشاط طلابي مطلبي، يراد وأده. في تلك الأثناء كانت أحداث القامشلي التي جرت إثر مباراة كرم القدم المشؤومة في 12ـ3ـ 2004 وما تلاها من حراك كردي في عدة محافظات سورية، دفعت الطلاب الأكراد في جامعات دمشق للانطلاق بتظاهرات حاشدة احتجاجاً على تلك الأحداث وما تسببت به من خسائر بشرية ومادية في صفوف الأكراد السوريين.. في هذه الحالة لا يمكن إنكار خصوصية الحراك ودافعه القومي، لكن أيضا لا يمكن تجاهل كونه انطلق من الأوساط الطلابية، من الجامعة والمدينة الجامعية، حيث الجميع يخضع لقوانين ونظم صارمة فيما يتعلق بممارسة الحقوق والحريات والأنشطة خارج إطار حزب البعث أو الاتحاد الوطني لطلبة سورية. في هذه الحال أيضاً تم اعتقال العشرات من الطلاب الأكراد تعرض معظمهم للتعذيب وإساءة المعاملة وفقا للتقارير الحقوقية قبل أن يفرج عنهم. ثم أحيل العديد منهم إلى "لجان الانضباط" التي قضت بفصل 11 منهم فصلاً نهائياً من الجامعات، وفصل 16 فصلا مؤقتا من الجامعات وفصلا نهائيا من السكن الجامعي، كما صدرت قرارات تالية بفصل عدد آخر من الطلاب. جرت العادة في سورية، في سبيل ضبط الحراك المجتمعي، إلى استخدام أسلوبين بالتزامن أو بالتتالي: الأسلوب الأمني البحت، واستخدام "القانون" لإضفاء الشرعية على الانتهاك المرتكب.. وهناك سلسلة من القوانين والقرارات المعدة لإنفاذ هذه المهمة.. على مستوى النشاط الطلابي، تنص الفقرات 1 ـ 7 ـ 9 من المادة 134 للائحة التنفيذية لقانون تنظيم الجامعات على أن الأعمال المخلة بأنظمة الكليات أو المدن الجامعية وسائر المنشآت الأخرى، أو الاشتراك في أعمال ذات طابع سياسي خلافا للقوانين والأنظمة النافذة، أو توزيع النشرات، أو وضع إعلانات بأية صورة كانت دون إذن مسبق من رئاسة الجامعة، يستوجب إجراءات انضباطية تأديبية". وجدير بالذكر أن جميع الطلاب الذين تم فصلهم نهائياً أو موقتاً من الجامعات خلال الأنشطة السابق ذكرها، استند قرار فصلهم إلى هذه المادة بالذات. كما تشتمل الأنظمة الداخلية لكل كلية أو معهد، على نصوص أخرى مشابهة. نقرأ مثلاً في النظام الداخلي لأحد المعاهد العلمية في سورية ما يلي: المادة 39 ـ تخضع المخالفات التالية للعقوبات الواردة في المادة السابقة (وتتراوح ما بين الفصل المؤقت والفصل النهائي): ....ج ـ الانتساب إلى تنظيم طلابي داخل المعهد غير مرخص به قانوناً.. .... هـ ـ توزيع النشرات أو إصدار جرائد الحائط قبل الحصول على ترخيص من الجهة المختصة. المادة40 ـ يعاقب بالفصل المؤقت أو النهائي من المعهد كل من يقوم أو يحرض على أحد الأعمال المبينة في البنود أـ جـ هـ من المادة السابقة. كل ما سبق يحمل هوس إمكانية تحول أي نشاط طلابي إلى عمل معاد للسلطة. نستجلي ذلك بوضوح أيضا من خلال نوعية الأسئلة التي كانت توجه للطلبة أثناء التحقيق معهم من قبل "لجان الانضباط" من مثل: "ماهي النقاشات السياسية التي تدور بينهم ضد النظام في سورية، ما هو رأيهم بحزب البعث في سورية، ما هو رأيهم بالوضع العام والنظام في سورية !!.".. إنه دفاع استباقي ضد "خطر" محتمل، من أجل "مكافحته"، يجري حرق البيدر بما حمل. وإذا كان خريف دمشق الأول قد أطل باعتقال النشطاء العشرة، فلعله من الممكن اعتبار الفترة التي تلت الأحداث السابقة خريف الحراك الشبابي.فلم تظهر مبادرات جديدة تنم عن استمرارية أو وضوح في الرؤية، بل على العكس، بدا أن الميزان مال بشدة مرة أخرى تجاه العجز والتشتت في ظل حصار أمني خانق، يقف بالمرصاد لأي حركة من كنس شارع إلى عقد اجتماع إلى تنظيم حزب. يتساءل المرء هنا أين دور الحراك الديمقراطي السوري من مسألة مساعدة الجيل الشاب على إيجاد الأطر المناسبة لنشاطه، ولماذا انفض هذا الجيل عن هذا الحراك؟؟ لا يمكن إنكار إصرار جميع الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني حديثة النشأة، على أهمية ودور الشباب في إنعاش نشاطها وإضفاء النضارة والحيوية عليه.. هكذا هو الأمر... لا يتعدى الشكل، مطلوب وجود الشباب بأعمارهم الفتية، لكن لم يتم البحث على الإطلاق في الدور الذي من المحتمل أن يلعبوه، في الاختلاف الذي يحملونه، وفي الأجواء التي يحتاجونها كي لا يتحولوا بدورهم إلى كهول صغار. ربما لذلك لم تبرز في أي من هذه التنظيمات أو المؤسسات وجوه شابة مبدعة تتحمل مسؤوليات معينة، وتعطى الفرصة للتجديد والابتكار، وقادرة بالتالي على استقطاب المزيد إلى الساحة، عوضا عن حالة الانفضاض عنها. ليست جميع الأبواب موصدة بشكل محكم، لكن ليس بالضرورة أن ما وراء الباب المفتوح درباً توصل إلى نتيجة إيجابية. الإسلام السياسي الأصولي، يفتح ذراعيه قدر استطاعته لتلقي شبان لديهم عقيدة قوية، لكن أيضا لديهم طاقات وقدرات توظف بالشكل الأسوأ. انتشار ظاهرة "عبدة الشيطان" بين طلبة الجامعات، والتي تستقطب بشكل أساسي وفقا لبعض من خبرها عن قرب، الشبان والشابات المنتمين إلى الطبقة المفرطة الغنى، لكنها أيضا تضم أفرادا من الطبقة المعدمة ماديا واجتماعيا. ظاهرة الهجرة التي في مقدمة أسبابها الأوضاع الاقتصادية المتردية، لكن أيضاً من دون إغفال عامل الإحساس باللاقيمة واللاجدوى، والحصار متعدد الأوجه الذي يخضع له الجيل الشاب في سورية.. خرق هذا الحصار يستوجب الحديث عن تحسن في الظروف الأمنية. ثم أن انفتاح في مناخ الحريات والحقوق الأساسية، يعطي الجميع فرصة للمشاركة البناءة، لكنه أيضا يستوجب وقفة مطولة من جانب فئة الشباب المهتمة بالشأن العام.. وطرح أسئلة من مثل، ما إذا كان لهذه الفئة دور في تبديد طاقاتها وعدم القدرة على ابتكار أساليب عملها الخاصة خلال السنوات الخمس الماضية وتحديد خياراتها من حيث ممارسة العمل السياسي المباشر، أو القيام بأنشطة ذات طابع عام أو التركيز على نواحي الإبداع الشخصية وتطويرها. فيما أعتقد، فإن دوران هذه الفئة حول الحراك الديمقراطي السوري، مع البقاء على مسافة منه، وعدم الرغبة في الانضمام إليه لأسباب سبق ذكرها، والتركيز على نقد هذا الحراك وانتظار أن يتجدد أو يبتكر أو يبادر في الوقت نفسه، خلق لديها عدم القدرة على تشكيل رؤية للعمل العام تختلف عن رؤيته. وبالتالي لا هي راضية بالانخراط في الموجود ولا هي قادرة على ابتداع ما يناسبها.. كما أن فقر ساحة هذا الحراك، والشعور بالحاجة إلى القيام بكل شيء ومن أجل كل شيء في سبيل تدارك خراب عام على مختلف الأصعدة، أدى إلى عدم الالتفات إلى الجانب الشخصي لدى أفراد هذه الفئة، في سبيل تطوير القدرات الذاتية، وتوظيفها في خدمة المبادئ التي يحملها الفرد. فمثلاً لا يكفي الإيمان بمبادئ الحرية والعدالة ليكون الشخص ناشطاً في حقوق الإنسان، ولا تكفي متابعة النشرات الإخبارية ليصبح ناشطاً سياسياً، ولا يكفي تذوق الشعر ليصبح المرء شاعراً.. وبالتالي قد يكون آن الأوان ليحدد الجيل الشاب خياراته انطلاقا من ذاته ومما يحمله من طاقات وقدرات.. وفي كل الأحوال، فقد أطل المارد من قمقمه بعد طول سبات ليجد نفسه محاطا من جهة بسلطة تخشى يقظته أكثر من أي شيء آخر، وبحراك سياسي معارض أسير تناقضاته واشكالياته الداخلية، ومجتمع يفضل أن تبقى دماؤه ساكنة على أن تتحرك تحت طائلة إراقتها على يد القمع. لكن الجهات الثلاث لا تدرك أن هذه الإطلالة ستليها انطلاقة حقيقة لم يعد من الممكن تأجيلها أكثر من ذلك، لكن ما يصعب توقعه هو كيف سيكون شكل هذه الانطلاقة ومداها في ظل تجاهل وقمع ثلاثي الأبعاد، وما هي الأشكال السلبية التي من الممكن أن تتمثلها. الوطن اليوم بأشد الحاجة لعودة الدماء تسري في عروقه، والمارد الشاب يبحث عن البرشام السحري ليفك قيده ويرمي بالمفاتيح السحرية داخل أقفالها.