سوريا وبشارة الـموت.. توت توت.. سوريا عم تموت.. تووووووت
أي قطار كان يستقله ذلك المتظاهر من بين ألوف المتظاهرين في ساحة الحرية، هذا الذي يبشر بموتي وموتنا
هذا الشعار الذي مر كصاعقة من بين شعارات أخرى كان المتظاهرون اللبنانيون يهتفون بها ضد سوريا، جعلني أشعر أن شاشة التلفاز اهتزت، والأرض والهواء والوطن، كلها تهتز...... توووووت، ترجع أصداء البشارة بالموت
لم أشعر بالغضب من ذلك الغاضب - أو المتشفي - كما بدا من طريقة صدحه بالشعار. قد يكون لم يقصد سوريا الوطن والشعب والتاريخ. قد يكون أساء التعبير في حين أنه يقصد النظام السياسي الذي تدير المعارضة في بلده معركةً ضده. وقد يكون شابا ضيّق الأفق لا يميز أن معركته تتلاقى في كثير من خيوطها مع معركة الشعب السوري من أجل الحرية والديموقراطية. قد يكون من يكون، أما أنا فقد انتابني فقط إحساس بالوجع، لأن أحدا غيري يدرك موتي ويجاهر به
أن تستمر خريطة الحقوق والحريات المدنية في سوريا على تشوهاتها حتى اللحظة، فهذا يعني الموت
أن يستمر السوري حبيس خوفه وقهره وسكونه، فهذا هو الموت
أن تستمر المعارضة السورية في مراوحتها مكانها، وفي ردود فعلها المتأخرة دوما وأفعالها شبه الغائبة دائما، فهذا هو الموت
لا موت أكثر من تنحي الشارع السوري عن ساحته، وإشاحته النظر عن أحداث متسارعة ومتعاقبة تتعلق مباشرة بحاضره ومستقبله، فيما هو يستمر كبقعة زيت هامدة على سطح الماء
من حيث المبدأ، يمكن فهم موقف السوريين المتحفظ والحذر من التعبير عن آرائهم بمختلف الوسائل. فليس بقليل حجم التشوهات التي أصابت مفاهيم المواطنين حول حقوق المواطنة، عبر سياسة طبِّقت لعقود عديدة، مفادها حظر ممارسة الحقوق المختلفة وإنزال أقصى العقوبات في المخالفين. وفي المقابل، تطبيق ممارسة مشوهة بالإكراه لهذه الحقوق، تؤدي بالإضافة الى ما تعتبره السلطة مكسبا على صعيد الاستمرار في تسيير الشارع كما تشاء، إلى تفريغ هذه الحقوق من مضامينها الحقيقية وخلق صور منفّرة عنها في لاوعي المواطن
من ذلك كانت مسيرات التأييد التي كنا نُجَرّ إليها من مدارسنا ووظائفنا وجامعاتنا تحت طائلة المحاسبة، في استلاب للكرامة وإمعان في الإذلال لا شبيه لهما. ذلك كان في الماضي. ثمة من اعتقد أن الحاضر يختلف، وكان التالي
كانت ساحة الحرية، بأعلامها التي دثرت قلب بيروت ووصلت شذرات من دفئها إلى دمشق، تلك كانت ريح الحياة، حيث لبنان وحده كان حاضرا، لا قادة يُعبَدون، ولا ولاءات تُفرض. ولعل ذلك ما جعل مسيرة المليون اللبنانية - السورية منذ أيام، تبدو ضئيلة رغم ضخامة عدد المشاركين، وباهتة رغم زخم الحضور
في تلك المسيرة، هبت رياح دمشق على بيروت. المتجمهرون كانوا القائد، انفعلوا لانفعالاته وهدأوا لهدوئه. هتفوا وراءه لسوريا الأسد، لسوريا القمع والقهر والصمت، مؤرخين لثامن من آذار لبناني في تاريخ جلب الشؤم على سوريا وأهلها، ولعله لا يكون كذلك على لبنان وأهله.في اليوم التالي، كانت مسيرة المليون السورية. أغلقت المحال التجارية بإيعاز أمني، وسيق الألوف من جامعاتهم ومدارسهم ووظائفهم إلى الشوارع. كان في إمكانك رؤيتهم بعد حوالى الساعة من بدء المسيرة مولّين رجوعا من مختلف الطرق، متكئين على الصور والأعلام التي أجبروا على التلويح بها. لا يمكن تبيان أي مشاعر على وجوههم، لا سعادة، لا تململ، لا سأم... ولا شيء البتة. فاليوم هو ابن الأمس، وغدا هو ابن اليوم، ولا شيء تغير أو قد يتغير
في اليوم التالي أيضا، كان اعتصام المعارضة السورية، التي نزلت إلى الشارع للمطالبة بإنهاء حال الطوارئ وإطلاق الحريات والإفراج عن المعتقلين السياسيين. بعد دقائق من تجمع العشرات من نشطاء هذه المعارضة، كانت جحافل البعث تحاصر المعتصمين الذين أسقط في يدهم حيال المفاجأة غير المتوقعة. شباب البعث يهتفون بحياة القائد ويطلقون السباب في اتجاه المعتصمين وينهالون عليهم بالضرب، والمعتصمون يلوذون بصمت عاجز، والشارع يراقب بدون كبير اهتمام
فلا المسيَّرون الذين أنزِلوا غصبا إلى مسيرات الولاء، يمثلون الشارع السوري، فهؤلاء هم المغلوبون على أمرهم الذين لم يتعودوا أن يكون لصوتهم معنى ولرأيهم أهمية ولموقفهم تأثير
ولا المهيَّجون الذين جاؤوا لشن الحرب على نشطاء المعارضة ودعاة الحرية والديموقراطية، يمثلون الشارع السوري، فهؤلاء هم أزلام النظام، مرتزقته ومنتفعوه أو مواليه على أسس طائفية بحتة
أما اعتصام المعارضة بدوره، فهو لا يمثل إلا نشطاءها. فقد عجزت هذه المعارضة حتى اللحظة عن التواصل مع الطالب والعامل والفلاح والموظف وربة المنزل. كانت أحد عناصر المسرح الدرامي الذي وقف الشارع السوري منه محايدا حتى في اللحظات التي هتف فيها بعض متظاهري السلطة:خونة... يا خونة... تفو... تفووووووو
في هذا ما هو أقسى من الاعتقال والتنكيل عبر الوسائل الأمنية. وفيه هدف واضح يبغي إلى زيادة عزلة الشارع عن المعارضة. وفيه خوف صريح عبّر عن نفسه بوقاحة، من أن يتحرك الشارع السوري من سباته، وأن يصاب بعدوى اليقظة من جاره القريب. وليس عبثا أن بعض الغوغاء أخذوا ينزعون الأعلام السورية عن أكتاف المعتصمين عنوة وهم يقولون: هذا علم لبناني
اللبناني الشقيق أصبح تهمة، لأنه تمرد على المحظور
السوري المتمرد أصبح خائنا يلاحَق بالعصي من الغوغاء تحت حماية الأجهزة الأمنية وعناصر الشرطة
السوري في موقع المتفرج، لا يزال على الرصيف. لكن هل صحيح أن هناك استحالة للوصول إليه ومخاطبة عقله وكسب ثقته واحترامه ومن ثم تأييده؟
لقد أصبح العمل السري مرفوضا، والعلني مقموعا، فهل يكون الحل مثلا بدعوة إلى اعتصام قبل أيام فقط من تنفيذه، لا يدري المواطن شيئا عن الداعين له أو أهدافهم وما يرمون إليه؟ هل يعقل أن ينفَّذ اعتصام كهذا في شارع مغترب عن نفسه وعن معارضته بدون أي محاولة للحشد له خارج إطار الداعين والمنفذين؟ ألا يحتاج هذا الشارع إلى خطاب موجه إليه ومتفاعل معه؟ خطاب متزن وجريء وعالي الصوت، قادر على أن يصدع جدران الخوف ويتيح لرياح الحياة التسلل عبرها؟
نحن جميعا في حاجة إلى الشعور بأننا نحرز تقدما ما، لكي نتمكن من الاستمرار. لا السلطة لديها الرغبة بكسر الطوق، ولا المعارضة قادرة على التعاطي بجدية مع ذلك. أما السوري فيستمر داخل هذا الطوق يتابع قطارا آتيا من بعيد: توووووووت... سوريا لن تموت.فهل يلحق به أم تفوته الحرية مرة أخرى؟
(source)